أ.د.عثمان بن صالح العامر
تناقل المهتمون بالشأن التربوي والتعليمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي في غضون الأيام القليلة الماضية مشهداً أمريكياً مترجماً، يظهر فيه رجل جاوز الثلاثين من عمره، يقف أمام القضاء مطالباً بفتح ملف قضية دعوى مرفوعة ضد التعليم الحديث في العالم أجمع، مدعياً أنه هو السبب الحقيقي لقتل المواهب الواعدة، وإجهاض روح الإبداع والاختراع، وسلب الاستقلالية في الشخصية، ووأد التفكير الحر الناضج لدى كثير من النشء في بلدان العالم المختلفة، مستشهداً بما هو حادث في المدارس من عدم التفريق بين الطلاب في القدرات والإمكانيات، والعجز عن اكتشاف المهارات والتوجهات، واعتبار النجاح والرسوب - حسب ما تقرّره المرجعية الإدارية للتعليم - هو معيار الذكاء والغباء، وبهذا تفقد الإنسانية منجزات العقل البشري لدى شريحة عريضة من الطلاب.
لم يكتفِ مقدِّم الدعوى بما سبق إيراده، بل أكد وجوب مراعاة حال عدم القادر على فهم ما يدرسه في هذه المحاضن التعليمية، ووضع المناهج والمقررات التي تتوافق وإمكانياته ومواهبه وقدراته ذات الاستقلالية في نظره دون أن يوصم بالغباء والفشل، مستشهداً هنا بما قاله ألبرت إنشتاين: «الجميع أذكياء، لكن إذا حكمت على سمكة بقدرتها على تسلّق الشجرة ستعيش كل حياتها مؤمنة أنها غبية». النظام التعليمي - كما يقول صاحب الدعوى المرفوعة - لا يجبر السمكة أن تتسلّق فحسب، بل يطلب منها النزول والجري عشرة أميال.
الجميل في الموضوع أنه بعد أن وافق له القاضي أن يدلي بأدلته عرض لصورة الجوال اليوم مقارناً به الهاتف قبل مائة وخمسين عاماً، ثم عرض لصورة سيارة حديثة مقارناً بها صورة السيارة قبل مائة وخمسين عاماً، وأخيراً عرض صورة الصف الدراسي الحالي مقارناً بما هو قبل مائة وخمسين عاماً، الأمر الذي جعل الحضور يضجون من شدة الاستغراب، إذ إن الصف هو الصف لم يتغيّر بعد، الكل يجلس على كراسي متماثلة في خطوط مستقيمة، ومن أراد أن يتحدث يجب أن يرفع يده، والجميع يدرسون منهجاً واحداً ويتلقون المعلومة بطريقة متماثلة تماماً وعلى يد أستاذ واحد، يرونه كل يوم طوال العام الدراسي، يقف أمام طلابه بنفس الطريقة طوال عمره الوظيفي ليلقنهم المعلومة الموجودة في الكتاب دون زيادة ولا نقصان.
يختم المشهد بتساؤل مهم: ترى هل نحن نعد الطلاب للمستقبل أم للماضي؟
إذا كان هذا حال مدارس التعليم في الدول المتقدِّمة فماذا عسانا أن نقول؟ وهل لدى وزارتنا الموقرة تصوّر واضح لمدرسة المستقبل، وخصوصاً أننا نعد جيلاً لمرحلة قد تختلف كثيراً عن حالنا اليوم، تقنياً وتعليمياً ووظيفياً واجتماعياً؟ طبعاً الكتب والمؤتمرات والندوات ذات الصِّلة المباشرة بهذا الموضوع أو تلك التي تحمل العنوان نفسه (مدرسة المستقبل) كثيرة، ولكن أيها يتوافق مع ظروفنا وواقعنا، ويلبي طموحنا وتطلعاتنا؟ ومقاييس معرفة الاتجاهات والمواهب والإمكانيات عديدة ولكن أين التطبيق الصحيح لها على صغارنا منذ لحظة بداية حياتهم العلمية وحتى التخرّج في الجامعة، ثم ماذا بعد المعرفة، هل لدينا مناهج خاصة بكل اتجاه؟ دمتم بخير، وإلى لقاء والسلام.