ما كاد العقد السابع من القرن الثامن الهجري يشرق على مملكة بني نصر حتى طرقها نبأ الانقلاب الذي انتهى بخلع الحاكم الشرعي محمد الخامس، وصعود محمد السادس (المعروف بالبرميخو) لسدة الحكم. والغريب أن أحدًا لم يشعر بالتدبير ولا حدس بالمؤامرة، حتى لسان الدين ابن الخطيب نفسه، على فرط قلقه وشدة توجسه؛ بقي مشدوهًا لهذا الصباح الأسود الذي وجد نفسه فيه مجردًا من مراسم الوزارة وحيدًا من الجاه في الوقت الذي طار فيه سلطانه المخلوع فجرًا، ولم يمهله الطارئ لاستركاب أهم أعمدة الدولة وعقلها المدبر.
حينما تقلب آثار ابن الخطيب المكتوبة، تلمع بين الأسطر عبارات تخوف واضطراب من هؤلاء السماسرة الكامنين على حواشي الفتنة، وكم كان يحذر سلطانه من عاقبة إسقاط العيون عن الكيانات السائبة بعد تسريحها من الخدمة أو توبيخها أمام الملأ، وهي حصافة سائس دولة، يرى الهوامش البشرية أشد خطورة من المتون المتنفذة، وأن خفافيش الظلام المنتحية جانب الأنوار، تقض المضاجع أكثر من الأحزاب والعساكر في وضح النهار. والحاصل أنه بقي في مهب العاصفة، واضطر للمداهنة مع المنتزين على السلطة، حتى أثمرت فيه الوشاية، وزج به في غياهب السجون، وكان عليه أن يتحرى وساطة تستنقذه من بعيد، فشفع فيه سلطان المغرب وألحقه بأميره الذي سبقه في اللجوء إلى عاصمة السلطنة المرينية.
وإن كانت خاتمة الانقلابي محمد البرميخو وعصابته على يد بدرو القاسي ملك قشتالة باتت حديث الركبان عن خرق التدبير وسوء المصير؛ فإن سماسرة الفتنة أخلدوا إلى الأرض ونال عفو السلطان محمد الخامس بعضَهم حين آب إلى دار ملكه. ولقد صدق فيهم ظن ابن الخطيب فيما بعد، لكنه كان الضحية الوحيدة لهم للأسف لما شاغبوا على كتاب له عدّوه من الزندقة بعد أن ألجأوا مؤلفه إلى الفرار خفية إلى بلاد المغرب. وفي حديث ابن خلدون عن محنة صديقه القديم ابن الخطيب وكيف أظلم الجو بينه وبين سلطانه، تشخيص أمين لتلك المرحلة التي نجح فيها السعي ضد صاحبه، وتسلم سماسرة الفتن ملف إدانته والتشنيع عليه.
لقد كان وعي الرجل بما يحيطه عظيمًا، وأعظم منه براعته في فرز فتائل الأزمات وحصر عدتها، وتوجيه الذهن باتجاه الخطر الساكن فيها.
ويبدو أن وزير غرناطة وهو يشير لهذا النوع من الشخصيات البشرية، إنما كان يقوم بتنميطها ورسم ملامحها العامة من منظوره القابل للتعميم قطعًا. لقد عاينهم في بلاد المغرب إبان لجوئه هناك، وكان يصفهم وفي ذهنه نظراؤهم في الأندلس، واقرأ -إن شئت- في كتابه «نفاضة الجراب في علالة الاغتراب»، في معرض سرده لحكاية السلطان المريني «أبو سالم»، وكيف أنزلوه من كرسي ملكه، وشردوه في السكك، حتى تمكنوا منه بعد أن وجدوه متنكرًا، فعاجلوه بالسكين، ولم يمنعهم مدافعته إياها عن نحره حتى فصلوا رأسه عن جسده.
وعلى قدر نكران هذا الموقف في عرف الطبيعة السوية، تكون ألفته عند سماسرة الفتن ومن لف لفهم، ولنا مع هذا المشهد وقفة قادمة إن شاء الله تعالى، فالتاريخ دواليب هواء عتيقة يعود بعضها على بعض.
** **
- د. صالح عيظة الزهراني