كنا قد انتهينا في الحلقة السابقة من مقال وسائل النقل الحديثة وبداية عهدها إلى ما قاله الشيخ حسن الشهابي أحد الروّاد الأوائل من السائقين عن تجربته هو، وكان حديثه ماتعاً، قال إن الرواد الأوائل في العُرْضِيّات إبراهيم بن عبدالرحيم المتحمي من ثريبان وكان يمتلك شاحنة من طراز ألماني (أبو شنب) وقد التقى مع صديقه وزميل المهنة رمضان بن أحمد الزهراني ورمضان هذا أول من افتتح طريق الساحل حيث بدأ من جدة في سنة 1366هـ وشق الطريق مروراً بالليث فالمضيلف فالقنفذة ثم البرك حتى وصل إلى تخوم جازان، وبعد مرور 10 سنوات على هذا التاريخ، بعد زيارة الملك سعود للقنفذة عام 1374هـ وبعد مضي عامين تحديداً في سنة 1376هـ التقيا رمضان الزهراني وزميله إبراهيم المتحمي وبدآ العمل سوياً على تعبيد طريق العُرْضِيّات الذي يربط المخواة بمحايل عسير مروراً ببني سهيم فنمرة فالمعقص ثم سبت شمران فبني رزق النبيعة ثم الكديس فعمارة حتى وصلا إلى محايل عسير، وقد كانا يمتلكان مركبتين (أبو شنب) من طراز f موديل 1956م مزودة بونش يقتلع الحجارة والأشجار وينحيها جانباً، وهذين الرائدين رحمهما الله يعدان أقدم من امتلك مركبات في العُرْضِيّات بشكل خاص والمنطقة على وجه العموم، وحينما تحدث الشهابي عن الرواد الأوائل ملاّك السيارات القدامى في العُرْضِيّات ذكر عبدالله بن سهلان البحيري من الفائجة وهو مجايله وصديقه الخاص، وبركات بن عايض العماري ومركبة بركات موديلها 1967م، وقال إن محمد بن زهير الحارثي من أعيان (حدبة مَنَفَه)، كان هو أيضاً يمتلك شاحنة موديلها 1968م، ثم محمد بن مِسْرِع العماري من أهالي قرن قريش وكانت مركبته شاحنة من طراز مرسيدس 24 لوري موديلها 1968م.
وأضاف أن رمضان الزهراني المذكور، بدأ في شق الطرقات بصحبة بعثة الجراد السودانية والتي تمتلك سيارات دودج x4 في تاريخ أقدم ولكنني لم أستطع تحديد تلك الفترة ولم أعثر على معلومات عن البعثة، وقد شارك رمضان في افتتاح 3 طرق من أهمها طريق الساحل ثم طريق العُرْضِيّات وقبل ذلك الطريق الواصل بين المضيلف فالأحسبة إلى المخواة.
وفي إطلالة على ما قاله عبدالله بن سهلان البحيري القرني أحد الرواد الأوائل من قادة السيارات حول بداية تلك المرحلة تحدثنا معه حول البدايات والمرحلة الانتقالية للمجتمع العُرْضِيْ من امتطاء ظهور الجمال إلى ركوب السيارات وتاريخ ظهور المركبات ووسائل النقل الحديثة ودخولها إلى نمره وسبت شمران، وازدهار حركة النقل في زمنه، وانتشار السيارات فيما بعد، بدأ الحديث عن نفسه وتجربته هو: فقال في مقابلة مطوّلة أجريتها معه لكونه أحد الرواد الأوائل والسائقين القدامى ومالك لإحدى الشاحنات في ستينيات القرن الماضي، وقد تحدثنا إلى شيخاً فاضلاً اتسع صدره لنا وللأسئلة التي وجهت إليه، وكأننا كنا على ميعاد سابق معه، ولدماثة أخلاقه كان الحديث معه ذو شجون فهو يملك معلومات قيّمة ودقيقة في هذا الجانب وقد تجاوز الثمانين من العمر ولكن لا زال يتذكر تلك الأحداث الدقيقة التي مرت به في أول عمره، وقد استهل حديثه بسيرة حياته هو وما شاهده حين كان في مقتبل العمر عندما تمنى هو وأقرانه أن يروا المركبات التي تصلهم أخبارها من ذويهم وعن القادمين من الحجاز، ولما شاهدوها تاقت أنفسهم أن يستقلوها ويستمتعوا بالركوب والسفر بواسطتها، وحين أصبح شاباً سعى أن يمتلك إحداها، فيقول عن تجربته الأولى سافرت بصحبة والدي في سنة 1369هـ وكان السائق رمضان الزهراني ويبلغ رمضان من العمر يومذاك قرابة الـ45 عاماً، وكانت الرحلة من بني بحير إلى المخواة، واستغرقنا يومين والمسافة لا تتجاوز 45 كيلاً.
وحينما سألناه عن أوائل الطرازات من تلك المركبات التي وصلت العُرْضِيّات في ستينيات القرن الماضي تحدث عن نوع يسمى محلياً (بو شنب: وهو عبارة عن لوري كبير يضاهي الشاحنة المرسيدس وحمولته قرابة العشرة 10 طن، وهو أصغر قليلاً من شاحنة المرسيدس التي تتحمل بـ12-13 طنا، وأبو شنب مركبة قوية صناعتها ألمانية مكتوب في مقدمته كلمة mak ومن أوائل موديلات أبو شنب التي وصلت للعرضيات موديل 1953 - 1954م).
وجاء بعدها نوع آخر هو الدودج، ثم وصل للعرضيات نوع ثالث هو مركبة عُرفت محلياً باسم (العنترناش) وهي سيارة قوية مزودة بأدوات سحب (ومزودة بونش) فاستغل مجتمع العُرْضِيّات حينها هذه الأداة في شق طريقهم بأنفسهم بواسطتها وبالطرق البدائية القديمة، وحول (العنترناش) أود القول إن هذه المركبة إحدى سيارات رجال سلاح الحدود في الماضي وهي من نوع (انترناشيونال) واشتهرت لدى العامة باسم (عنترناش)، واتصفت هذه المركبة بالقوة والمتانة، وكانت شركة (أرامكو) تعتمد عليها في كثير من مشروعاتها، لاسيما عند إيصال أنابيب النفط إلى البحر الأحمر والبحر المتوسط، ولما انتهت منها الشركة باعتها في المزادات وانتشرت بين العامة، وأصحاب الطرق والرحلات ولذلك وصلت إلى بلاد العُرْضِيّات وغيرها وجاء على ذكرها العم عبدالله بن سهلان، وأردف ابن سهلان أن الأهالي في العُرْضِيّات كانوا يسعون للوصول بطريقهم للمخواة شمالاً وإلى محايل جنوباً فقام بني بحير وبلعريان وبلحارث بالبدء في ذلك بالطرق البدائية في ظل الغياب التام للجرافات الحديثة من (شيول) و(تراكتور) وغيرها، وإسناداً لهذا القول كان قد حدثنا الراحل علي بن سعيّد القرني قبل رحيله إنه وجمعٌ من أهالي قريته في بداية حكم الملك سعود استُعْمِلُوا في إنجاز عمل وهو تمهيد الطريق في الموضع المعروف (نزلة الفقيه).
بعد ذلك نحى الحديث مع ابن سهلان والعودة لقصة سفره هو بعد أن بلغ مبلغ الرجال، يقول سافرت في نهاية عام 1375هـ والتحقت بالوظيفة في الجيش السعودي في تاريخ 1-1-1376هـ،والأجور الشهرية حينها قرابة 140 ريالا سعوديا، وحالتي الاقتصادية كانت سيئة، بعد ذلك تنقلت حيث سافرت من الخرج إلى دولة الكويت وعملت في الكويت بسبب الرواتب المجزية عندهم التي تجعل الشاب في مثل عمري يطمع بالسفر إلى هناك فكانت الأجور الشهرية عندهم أكثر من 1000 دينار كويتي، واستطرد ابن سهلان وقال لم نكن في ذلك الوقت نعرف المال، والقليل من الوجهاء في بلادي من كان يملك المال، فلم يكن متوافراً إلا في بيوتات معدودة وعلى سبيل المثال الشيخ علي بن قصّاص البحيري والشيخ عبدالله بن مجنّي، وبن جَرِيْد في سبت شمران، وعند حسن بن صَمُوْتْ، يقول العم عبدالله بعد ذلك اتجهت إلى قطر وحصلت على رخص قيادة للسيارة من قطر وقبلها رخصة من الكويت، ثم خرجت من قطر في عام 1381هـ واتجهت إلى مسقط رأسي العُرْضِيّات، يقول اشتريت في عام 1383هـ سيارة فورد (فورت) 5 طن موديلها 1959م وكان وكيلها والمورد لها من جدة هو زيني رضا، ونشرت وسائل الإعلام حينذاك أنها صناعة إسرائيلية وقاطعها العرب بعد حرب 1967م فتوقف توريدها للمنطقة العربية، وعند الحديث عن تجربته هو كأحد الرواد الأوائل من السائقين يقول نمكث بسبب وعورة الطرق في العُرْضِيّات من يومين أو ثلاثة عندما نتنقل بين نمرة إلى محايل وسبت شمران والمخواة، وهناك مواقع كثيرة فيها أودية سحيقة وعرة عبورها يعد أمراً خطراً ويتطلب مهارة عالية في القيادة ومن أشهر تلك النقاط (دُقْمْ الوَقْر) عندنا في العُرْضِيّات (ونزلة الفقيه) القريبة من سبت شمران حيث تكون الشاحنة معرضة للانقلاب ويعتمد ذلك على مهارة السائق فنضطر لإنزال الركّاب المسافرين لكي لا يصابوا بأذى لو انقلبت الشاحنة، فيكملوا تجاوزها سيراً على الأقدام وهذه إحدى العقبات التي كنا نعانيها في ذلك الوقت، وأذكر لك أن من صفاء نفوس أهل ذاك الزمان أن العائلات المسافرة على هذه المركبة يجتمعون حول بعضهم كأنما هم أبناء أسرة واحدة للمقاساة والمعاناة التي يلاقونها سوياً في تلك الرحلات، وحين تحدّث عن الرواد الأوائل في هذه المهنة الشاقة ذكر ابراهيم المتحمي من ثريبان وزميله رمضان احمد الزهراني من أهالي أصدار زهران ويلقب بـ(فتّاح الخطوط)، وقال إن أول حادث مروري أتذكره وقع لمتحمي في المضيلف حين سفرهِ حيث ارتطم بشجرة فانقلبت شاحنته، وكان معه معاون ولكن سلمهما الله، ثم عملت مع عدد من الرواد أذكر لك منهم غرم الزهراني ثم شخص يدعى الدبيشي، ثم بن جراد وهو من الرواد الأوائل وحالياً أحد تجار محايل، وجاء بعدهم محمد بن مسرع العماري ثم أتى بعده عبدالله بن محمد الرزقي وزميله بركات وقد بدآ سوياً في هذه المهنة، ثم اقتنى بعدهما الشيخ حسن بن وهاس مركبة جديدة في عام 1381هـ فورد موديل 1961م اثنين ونصف طن، موديل نفس السنة، ووضع لمركبته قائداً من أهل السراة.
وفي الختام بعد نشر المقال السابق وردت هناك ردود متباينة، فالبعض يرى جمال الفكرة وآخرون يرون أن هناك روّاداً لم نأت على ذكرهم وكان يجب الإشارة إليهم، وفي الواقع أننا حين عزمنا على البحث في هذا الموضوع كان الهدف الرئيس هو إلقاء الضوء على البدايات والمرحلة الانتقالية الأولى لمجتمع العرضيات وبداية مرور السيارات من تلك البلاد وأوائل السائقين، فكان التركيز على الروّاد الأوائل ونحن نعلم أن جيلاً آخر جاءوا من بعدهم امتلكوا مركبات ونالوا شهرة واسعة في المنطقة وخدموا مجتمعهم، ولكن للأسف ولعدة أسباب لم نشر إليهم، أولاً لأن التركيز كان على الستينيات والسبعينيات وهي البداية الحقيقية ثانياً أن الجيل التالي جاء بعد قرابة العشرين عاماً أي في تسعينات القرن الهجري الماضي وما بعدها ولا نمتلك معلومات كافية عنهم فرأينا أن يكون التركيز على الروّاد الأوائل فقط، وكنت أتمنى على من علق أن يضيف معلومات جديدة ننسبها له ويتحمل هو مسئولية دقة المعلومة.
هذا ما تيسر لنا إيراده وتهيأ لنا إعداده وأعاننا الله على كتابته والحمد لله رب العالمين.
** **
- عبد الهادي بن مجنّي
bnmgni@hotmail.com