«الجزيرة» - حبيب الشمري:
شكّل الأمر الملكي الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله-، والقاضي بإنشاء الهيئة العليا لمكافحة الفساد برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، نقلة نوعية في مكافحة الفساد في المملكة، وأصبح حديث العالم أجمع، خاصة في صرامته، وقوته الدستورية، وحاجة البلاد إليه.
واعتبر كثير من المراقبين محليًا وعالميًا، أن هذا التوجه ذو أثر على التنمية، نظرًا لأنه بدأ المكافحة من الأعلى إلى الأسفل، حيث لم يستثنِ وزيرًا أو أميرًا، ووضع الجميع سواسية، فضلاً عن معالجته هذا الملف بالحكمة والمسئولية من خلال النظر في التسويات التي تعتبر نهجًا عالميًّا لمثل هذه الحالات.
وجاء الأمر الملكي الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين يوم 15 صفر 1439هـ، الموافق 4 نوفمبر 2017م، ليمثل تحولاً بكل المقاييس، حيث ارتكز على النظام الأساسي للحكم الصادر بالأمر الملكي رقم (أ/ 90) بتاريخ 27-8-1412هـ، ونظام مجلس الوزراء الصادر بالأمر الملكي رقم (أ/ 13) بتاريخ 3-3-1414هـ، ونظام مجلس الوزراء ونواب الوزراء وموظفي المرتبة الممتازة الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/ 10) بتاريخ 18-3-1391هـ، ونظام محاكمة الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/ 88) بتاريخ 22-9-1380هـ، ونظام الإجراءات الجزائية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/ 2) بتاريخ 22-1-1435هـ، والأوامر رقم 4690 بتاريخ 6-2-1435هـ، ورقم 10015 بتاريخ 6-3-1436هـ، ورقم 12089 بتاريخ 6-3-1437هـ، وهو يعني أن القرار راعى جميع الإجراءات النظامية والقانونية واللازمة.
وتكشف مقدمة الأمر الملكي تأصيلاً لما تم من خلال تأكيد الملك -حفظه الله- على أنه: نظراً لما لاحظناه ولمسناه من استغلال من قبل بعض ضعاف النفوس الذين غلبوا مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة، واعتدوا على المال العام من دون وازع من دين أو ضمير أو أخلاق أو وطنية، مستغلين نفوذهم والسلطة التي ائتمنوا عليها في التطاول على المال العام وإساءة استخدامه واختلاسه، متخذين طرائق شتى لإخفاء أعمالهم المشينة، ساعدهم في ذلك تقصير البعض ممن عملوا في الأجهزة المعنية وحالوا دون قيامها بمهامها على الوجه الأكمل لكشف هؤلاء، مما حال دون اطلاع ولاة الأمر على حقيقة هذه الجرائم والأفعال المشينة.
وقال الملك في أمره الكريم: حرصنا منذ تولينا المسئولية على تتبع هذه الأمور انطلاقاً من مسئولياتنا تجاه الوطن والمواطن، وأداء للأمانة التي تحملناها بخدمة هذه البلاد ورعاية مصالح مواطنينا في جميع المجالات، واستشعاراً منا لخطورة الفساد وآثاره السيئة على الدولة سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً، واستمراراً على نهجنا في حماية النزاهة ومكافحة الفساد والقضاء عليه، وتطبيق الأنظمة بحزم على كل من تطاول على المال العام ولم يحافظ عليه أو اختلسه أو أساء استغلال السلطة والنفوذ فيما أسند إليه من مهام وأعمال نطبق ذلك على الصغير والكبير لا نخشى في الله لومة لائم، بحزم وعزيمة لا تلين، وبما يبرئ ذمتنا أمام الله سبحانه ثم أمام مواطنينا، مهتدين بقوله تعالى: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص)، وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
كما عاد الأمر الملكي إلى ما قرره علماء الأمة من خلال النص في القرار على أنه «لما قرره علماء الأمة من أن حرمة المال العام أعظم حرمة من المال الخاص بل وعدوه من كبائر الذنوب، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (188) سورة البقرة، وإيماناً منا بأنه لن تقوم للوطن قائمة ما لم يتم اجتثاث الفساد من جذوره ومحاسبة الفاسدين وكل من أضر بالبلد وتطاول على المال العام. وبناءً على ما تقتضيه المصلحة العامة.. أمرنا بما هو آت:
أولاً: تشكيل لجنة عليا برئاسة صاحب السمو الملكي ولي العهد، وعضوية كل من: رئيس هيئة الرقابة والتحقيق، ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ورئيس ديوان المراقبة العامة، والنائب العام، ورئيس أمن الدولة.
ثانيًا: استثناءً من الأنظمة والتنظيمات والتعليمات والأوامر والقرارات تقوم اللجنة بالمهام التالية:
1 ـ حصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام.
2 ـ التحقيق، وإصدار أوامر القبض، والمنع من السفر، وكشف الحسابات والمحافظ وتجميدها، وتتبع الأموال والأصول ومنع نقلها أو تحويلها من قبل الأشخاص والكيانات أيًّا كانت صفتها، ولها الحق في اتخاذ أي إجراءات احترازية تراها حتى تتم إحالتها إلى جهات التحقيق أو الجهات القضائية بحسب الأحوال.
3 ـ اتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام، واتخاذ ما تراه بحق الأشخاص والكيانات والأموال والأصول الثابتة والمنقولة في الداخل والخارج وإعادة الأموال للخزينة العامة للدولة وتسجيل الممتلكات والأصول باسم عقارات الدولة، ولها تقرير ما تراه محققًا للمصلحة العامة خاصة مع الذين أبدوا تجاوبهم معها.
ثالثًا: للجنة الاستعانة بمن تراه، ولها تشكيل فرق للتحري والتحقيق وغير ذلك، ولها تفويض بعض أو كامل صلاحياتها لهذه الفرق.
رابعًا: عند إكمال اللجنة مهامها، ترفع لنا تقريرًا مفصلاً عما توصلت إليه وما اتخذته بهذا الشأن.
خامسًا: يبلغ أمرنا هذا للجهات المختصة لاعتماده، وعلى جميع الجهات المعنية التعاون التام لإنفاذ ما تضمنه أمرنا هذا.
ولي العهد: الملك رأى أنه يتعذر البقاء في G20 والتطور مع مستوى الفساد الحالي
وقد أوضح صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز تفاصيل هذه الخطوة، من خلال تأكيده أن خادم الحرمين الشريفين وضع هذا الملف على سلم أولوياته منذ اليوم الأول لتسلمه مقاليد الحكم، وأنه حرص على ألا يكون الفساد عاملاً مهددًا للوطن.
وقال سموه في حوار مع صحيفة نيويورك تايمز حول هذا الملف «عانت بلادنا كثيراً بسبب الفساد منذ الثمانينيات حتى يومنا هذا. وفقاً لخبرائنا، كان الفساد يبتلع نحو عشرة في المائة من مجموع الإنفاق الحكومي سنويًا، وذلك من أعلى المستويات إلى أدناها. على مر السنين، شنّت الحكومة أكثر من «حرب على الفساد»، وقد باءت كلها بالفشل.. لماذا؟ لأنها بدأت جميعها من الأسفل نحو الأعلى».
وشدد سموه في الحوار الذي أجراه الصحافي الأمريكي توماس فريدمان على أنه «عندما تسلّم الملك سلمان السلطة تعهّد بوضع حد للفساد»، كما يقول ولي العهد مضيفاً: «رأى والدي (الملك) أنه يتعذر علينا، مع هذا المستوى من الفساد، البقاء في مجموعة العشرين وتحقيق النمو والتطور. في مطلع العام 2015، من أولى الأوامر التي أصدرها لفريق عمله جمع كل المعلومات عن الفساد -في أعلى الهرم. عمل الفريق على امتداد عامين جمع خلالها المعلومات الأكثر دقة، ثم وضع قائمة بنحو مئتَي اسم».
يتابع الأمير محمد بن سلمان: عندما أصبحت كل البيانات جاهزة، تحرّك المدعي العام، شارحاً أنه عُرِض خياران على كل واحد من الأمراء أو أصحاب الثروات المشتبه بهم بعد توقيفهم: «أطلعناهم على كل الملفات التي بحوزتنا، وما إن رأوها حتى وافق نحو 95 في المائة منهم على التوصل إلى تسوية»، والمقصود بذلك التوقيع على تسليم أموال نقدية أو حصص في شركاتهم إلى خزينة الدولة السعودية.
أضاف: «تمكّن نحو واحد في المائة من إثبات نظافة كفّهم، وجرى إسقاط القضايا بحقهم على الفور. ويقول حوالي أربعة في المائة إنهم ليسوا فاسدين ويريدون التوجّه إلى المحكمة مع وكلائهم القانونيين. بموجب القانون السعودي، يتمتع المدعي العام بالاستقلالية. لا يمكننا التدخل في عمله- يستطيع الملك إقالته، لكنه هو من يقود العملية.. ولدينا خبراء يحرصون على عدم تعرّض أي شركة للإفلاس نتيجة هذه الإجراءات» - تجنباً للبطالة.
وعندما سأله فريدمان: «ما المبالغ التي ستتم استعادتها؟»، فأجاب إن المدعي العام يقول إنها قد تصل إلى «نحو مائة مليار دولار في إطار التسويات». ولفت إلى أنه يستحيل استئصال جميع أشكال الفساد من أعلى الهرم إلى أسفله، قائلاً: «لذلك يجب توجيه إشارة، والإشارة التي يتم توجيهها الآن هي الآتية ‹لن تُفلتوا›. وقد بدأنا نلمس الأثر»، كما في التعليقات التي يكتبها الأشخاص عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وشرح الأمير محمد بن سلمان أن رجال الأعمال السعوديين الذين دفعوا رشاوى لإنجاز معاملات والحصول على خدمات عن طريق الموظفين البيروقراطيين، لن يخضعوا للملاحقة القانونية، قائلاً إن الملاحقة تطال «أولئك الذين سحبوا الأموال من الحكومة» - بواسطة تضخيم الفواتير والحصول على عمولات.
يقول الصحافي الأمريكي إن «الرهانات عالية بالنسبة إلى محمد بن سلمان في هذه الحملة لمكافحة الفساد. إذا شعر الرأي العام بأنه يعمل فعلاً على تطهير الفساد الذي كان يتسبب بتقويض ركائز المنظومة، وأنه يفعل ذلك بطريقة شفافة، وبأنه يعلن بوضوح للسعوديين والأجانب الذين يفكّرون في الاستثمار في البلاد مستقبلاً بأن سيادة القانون ستسود، فسيضخ ذلك حقاً قدراً كبيراً من الثقة الجديدة في المنظومة.
وكان النائب العام عضو اللجنة العليا لمكافحة الفساد المشكلة قد أصدر بيانًا عن عن أعمال اللجنة حتى تاريخه قال فيه:
1 ـ بلغ عدد الأشخاص الذين استدعتهم اللجنة (320) شخصاً، حيث تم استدعاء أشخاص إضافيين بعد البيان الصادر بتاريخ 20-2-1439هـ، الموافق 9 نوفمبر 2017م، بناءً على المعلومات التي أدلى بها الموقوفون، وذلك لتقديم ما لديهم من معلومات إضافية.
2 ـ قامت اللجنة بإحالة عدد منهم للنيابة العامة، وبهذا أصبح عدد الموقوفين حتى تاريخه (159) شخصاً.
3 ـ معظم من تمت مواجهتهم بتهم الفساد المنسوبة إليهم من قبل اللجنة وافقوا على التسوية، ويجري الآن استكمال الإجراءات اللازمة بهذا الشأن.
4 ـ قامت النيابة العامة بدراسة ملفات من أحيلوا إليها وفقاً للإجراءات النظامية ذات العلاقة، وقررت التحفظ على عدد محدود منهم وأفرجت عن البقية.
5 ـ بلغ عدد المحجوز على حساباتهم البنكية حتى تاريخه (376) شخصاً من الموقوفين أو الأشخاص ذوي الصلة.
وفي هذا السياق، أكد النائب العام أن الجهات المعنية ستستمر بمراعاة عدم تأثر أو انقطاع أي أنشطة متعلقة بأصول وأموال الموقوفين أو الحقوق المتعلقة بها لأطراف أخرى، لاسيما الشركات والمؤسسات، وأنه قد تم اتخاذ ما يلزم لحماية المؤسسات والشركات المملوكة كلياً أو جزئياً لأي من الموقوفين، كما تم تمكين الشركاء والإدارات التنفيذية في تلك الشركات والمؤسسات من مواصلة أنشطتها ومعاملاتها المالية والإدارية دون أي تأثير.
كما أوضح معالي النائب العام في هذا السياق أيضاً أن الإجراءات المتبعة في التعامل مع هذه القضايا تتم على مرحلتين؛ هما:
المرحلة الأولى: مرحلة التفاوض والتسوية: تستند هذه المرحلة نظاماً على ما قضى به الأمر الملكي، المشار إليه أعلاه، من أن للجنة تقرير ما تراه محققاً للمصلحة العامة، خاصة مع الذين أبدوا تجاوبهم معها، وبناءً عليه فقد اتبعت اللجنة أساليب مطبقة عالمياً في التعامل مع هذه الحالات وذلك بالتفاوض مع الموقوفين بتهم الفساد لديها، وعرض اتفاقية تسوية عليهم تسهل استعادة أموال الدولة وتختصر إجراءات التقاضي التي تأخذ عادة وقتاً يطول أمده. ومن المتوقع أن تنتهي هذه المرحلة خلال أسابيع.
وتجدر الإشارة إلى أن جميع الموقوفين متاح لهم التواصل مع من يرغبون التواصل معه في هذه المرحلة، ولا يتم بأي شكل من الأشكال التأثير على إرادة أي منهم، ويحق للموقوف رفض التسوية في أي وقت قبل توقيعها، وبناءً عليه فإنه يتم في هذه المرحلة ما يلي:
1 ـ مواجهة الموقوف بما هو منسوب إليه، فإن أقر به بكامل اختياره ورضاه تم الاتفاق معه على تسوية تدفع للدولة مقابل قيام اللجنة بالتوصية بصدور عفو عن حقوق الدولة عليه المتعلقة بما نسب إليه من تهم فساد، وانقضاء الدعوى الجزائية. ويتم بناءً على ذلك توقيع اتفاقية تسوية تتضمن ما أُشير إليه.
2 ـ في حال عدم التوصل إلى تسوية أو إنكار الموقوف ما نسب إليه، يتم إحالته إلى النيابة العامة لاستكمال الإجراءات النظامية بحقه.
المرحلة الثانية: مرحلة الإحالة إلى النيابة العامة: تدرس النيابة العامة قضية المحال إليها من اللجنة وتستكمل الإجراءات النظامية المتمثلة بما يلي:
1 ـ مواصلة التحقيق مع المتهم ومواجهته بالأدلة والمعلومات التي توافرت عن ارتكابه لجرائم فساد، وذلك وفقاً لإجراءات التحقيق التي نص عليها نظام الإجراءات الجزائية.
2 ـ البت في أمر الإيقاف على ذمة التحقيق، فإذا كانت الأدلة تسوّغ الاستمرار في إيقافه فيتم ذلك وفقاً للمدد المحددة نظاماً، والتي تصل إلى ستة أشهر وفقاً لصلاحيات النائب العام، أو يتم التمديد لمدد أكثر من ذلك في الحالات الاستثنائية بقرار من المحكمة المختصة.
3 ـ تقوم النيابة العامة بإطلاق سراح المتهم بمجرد انتهاء التحقيق بأن الأدلة ضد الموقوف غير كافية وأنه لا وجه للسير في الدعوى ضده، وإلا فيتم رفع الدعوى ضده وفقاً للإجراءات النظامية.
وختاماً، أكد النائب العام مرة أخرى أن نظام الإجراءات الجزائية كفل للمتهم عدداً من الحقوق، التي منها -على سبيل المثال لا الحصر- الحق في الاستعانة بوكيل أو محام في مرحلتي التحقيق والمحاكمة، والحق في الاتصال بمن يريد إبلاغه بإيقافه، والحق في عدم توقيفه أكثر من ستة أشهر إلا بقرار من المحكمة المختصة، وأنه يحظر إيذاؤه جسدياً أو تعرضه للتعذيب أو المعاملة المهينة للكرامة.