السادسة مساءاً بتوقيت العاصمة الرياض، المدينة المتناقضة في علاقتها مع الآخر، يوم تشعرك بأنها صديقة حميمة، تعيش بها كل تفاصيل الاحتواء، ويوم آخر تتخلى عنك، وتتركك مُبعثر بين أروقتها. الطقس البارد، وما تركه المطر من أثر، يمنحك شعورا بجمال داخلي، وإحساسا دافئا خلفته بقايا النهار، صوت منبعث من سيارة مجاورة لـ «لسه فاكر» يكمل ما بقي من روح المكان، السديم كان سدول مبكر لليلة مختلفة، لوهلة، ينتابك شعور بإن كل من في الطريق ذاهبون إلى « الحدث الأكثر أناقةً «، لا أصدق أن أحداً سيبقى ولن يذهب إلى هناك، تلمح في وجوه من حولك قلقا من أن تُختطف الشوارع، وتتيه العناوين، ولا يستطيعون الوصول، ربما الأرض لم تعد تكفي، والمسافات طال انتظارها، لكنهم عازمون على الذهاب، لأن هناك ما يستحق الوصول والعناء، ثمة شيء جميل يحدث في ذلك المساء المفعم بالحياة.
كعادتها في صناعة « الإبهار»، وكتابة « قصص النجاح»، تبرهن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني يوماً بعد يوم أنها «أيقونة» المستقبل، حينما تقدم مع كل إشراقة شمس نسخة جديدة من مبادراتها «الفريدة».
عند بوابة الدخول، يسألني الحارس من أكون، سألت نفسي: هل أخبره من أنا، أم أقول له فقط أنني عاشق « للجمال» و» الأناقة «؟ بالفعل، لم أكن بحاجة لإبراز هويتي، لقد كانت الإجابة الأخيرة كافية لتكون رخصة العبور إلى الداخل. خلف شباك التذاكر عالم كبير، لا يتواجد فيه سوى « نخبة» من متذوقي الفنون ومن يسكن أعماقهم «سحر» المكان حيث يقطن أولئك الباحثون عن ذواتهم تحت سقف من التحفيز وعلى منصة التفرد، يمارسون إبداع أناملهم، وعشق عيونهم، هنا موطن الفن الرفيع، هنا يتوقف الزمن، هنا «ألوان السعودية».
قررت أن أرقب الحدث من زاوية أكثر بعداً، فكان الخيار الأمثل ركن القهوة، حيث رائحة «البُن» التي تسيطر على المكان بشاعرية مفرطة، أخذت مكاني وأنا القريب البعيد، المشهد أقرب إلى ما يكون من روائع أفلام «ديفيد لينش» السريالية والخارجة عن الواقع المألوف، ولربما هو اقرب للقطة من احترافية «ستيف ماكوريكيف»، مهما يكن فقد اجتمع كل هؤلاء هنا، رغم اختلاف جنسهم ومواهبهم واهتماماتهم، عبق الشباب كان عامل مشترك، في ملاذ الباحثين عن شيء مختلف. ربما كان هو المكان الوحيد الذي ضجيجه مثل صوت الموج، واكتظاظه أشبه بمدرج روماني يجتمع فيه ذائقو الصوت والصورة. ليصنعوا مستقبلا خاصا بهم. وسط هذا الزحام من المشاعر، كان لابد أن أعلن عن حضوري لمثل هذا المكان، شاهداً على كل هذا الجمال. بل لا يليق بدستور العشق أن أكون غائباً، حينها قررت أن أطلب فنجاناً من القهوة السوداء، فعلم الجميع بأنني «هنا».
بجانبي رجل أربعيني « أنيق»، يجلس على نصف طاولة بالقرب من الجدار، بالكاد أرى ملامح وجهه، يضع يديه المتشابكتان أسفل ذقنه، عيناه لا ترمشان، يحدق بهما بعيداً، فيهما ترى عبث السنين، وتسمع حكايات لا تروى، تشعر في نظراته بصمت مُدَوٍّ، يبدو أنه عاشق قديم لحياة فُقدت أو ضاعت وحال لسانه يكاد يشدو بـ «لا تُخْفِ ما صَنَعَتْ بِكَ الأَشْواقُ.. واشْرَحْ هَوَاكَ فَكُلُّنا عُشَّاقُ»، حاولت أن ألفت انتباهه كي أتحدث إليه، لكنه لم يعرني أي اهتمام، وظل كما هو، في مشهد ثابت، لم يتحرك منه شيء، حتى أنفاسه لا يمكن أن تشعر بها، أي إنسان ذلك الذي بداخله، وما كل هذا السكون الذي هو عليه، هممت بمغادرة المكان، اقتربت منه لألقي عليه تحية الوداع، وقفت أمامه، وبدا لي أكثر وضوحاً، لقد اكتشفت حينها أنه لم يكن هو، ولا هو كائن موجود، بل كانت صورة «بورتريه» معلقة على جدار خلف الطاولة، كانت أكثر تعبيراً من الواقع نفسه، أُنجزت بإحساس راقٍ، وصنعتها أيدٍ محترفة، عاشت قصة مكان وإنسان، وتتلمذت يوماً في كنف « ألوان السعودية».
كان مساء كل ما فيه مفعم بالجمال، تركت قهوتي، ومعها حزمة من أشجار الليل، وأعواد من «الحنين»، لربما أستظل بها يوماً عن ضوء القمر.
** **
بدر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن