د. عيد بن مسعود الجهني
عندما شاء الله أن ألتقي بالشيخ محمد بن إبراهيم السبيعي وأتعرف عليه، انفتح له قلبي من أول لقاء، وضمته جوانحي عاطفة عميقة وحباً صادقاً، ما زال ينمو ويزيد ويكبر كلما عرفته أكثر، والشيخ للأمانة مثال فريد في لطفه ورقته وإنسانيته، وأدبه الجم، حديثه العذب، واحترامه للآخرين وحبه لهم والاهتمام بهم.
أعترف أن زياراتي له -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- كانت قليلة متباعدة، لكن في كل مرة زرته فيها كنت أزداد حباً له وإعجاباً بخلقه وتواضعه وحسن سجيته، وكان في سماحته وحسن خلقه أنه يصر إصراراً عجيباً على تكريم من جاء لزيارته، وإذا جلست إليه وجدته فريداً في لطفه وإنسانيته وحديثه العذب وطلاقة الوجه، جاء في الحكم المأثورة (إن من حسن الخلق ان يكون المرء لين الجانب طلق الوجه طيب الكلمة).
إنني أجد صعوبة في الكتابة عن الشيخ، فالعاطفة بطبيعتها إذا جاشت وفاضت تشوش على العقل وأنا لي حب عميق للرجل، ولي تجاهه عاطفة جياشة قوية صادقة، وإن كل جملة تراودني عن نفسها واستعرضها في عقلي أجدها لا توفيه حقه.
لعل ما قلته آنفاً اعتذار مسبق عن أن ما سأكتبه عن الشيخ السبيعي لن يفيه حقه مهما اجتهدت في ذلك واخترت من الكلمات والعبارات، فلكل محبيه العتبى حتى يرضوا.
ان رحمه الله حليماً صبوراً والصفات الطبية الأخرى اجتمعت فيه، وهي من الصفات التي يحبها الله سبحانه وتعالى، يدلنا على ذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران 200. ويقول عزَّ وجلَّ {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} النحل 127.
كان الشيخ السبيعي رحمه الله خلوقاً متواضعاً اجتمعت فيه مكارم الأخلاق والعقل، أحكمته التجارب فزادته حكمة وتواضعاً، لا يقول لسانه إلا خيراً!. كما يقول الشاعر:
عَوّد لسَانك قَوْل الَخير
إنّ اللسَان لما عوّدتَ يعْتَاد
وهذا لا يستغرب من رجل في خلق الشيخ السبيعي الذي عرف بمحاسن الأخلاق، فقد نوه الإسلام بالخلق الحسن ودعا إلى غرسه في المسلمين وتنميته في نفوسهم، واعتبر إيمان العبد بفضائل نفسه وإسلامه بحسن خلقه وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم فضل محاسن الأخلاق فقال: (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق) رواه أبو داود.
ورغم أن زياراتي على قلتها للشيخ السبيعي رحمه الله -وهذا تقصير مني- إلا أنني عرفت بعض ملامح كفاح الرجل في هذه الحياة، أخبرني -رحمه الله- كيف بدأ حياته العملية في (بدر) التي شهدت غزوة بدر الكبرى ضد المشركين الذين تلقوا هزيمة نكراء، فقد ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوب الذين كفروا الرعب قال تعالى {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} الأنفال 12، وقال تعالى {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} آل عمران 123.
بدر التاريخ والعزة بدأ الشيخ السبيعي موظفاً فيها في عهد صقر الجزيرة الملك عبدالعزيز رحمه الله، المرتب (12) قرشاً لكنها مباركة لأنها مكتسبة بالحلال، ومنها إلى مكة المكرمة المدينة المقدسة بها المسجد الحرام والكعبة المشرفة قبلة المسلمين في صلواتهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) رواه البخاري.
من هذه المدينة المقدسة المباركة امتهن الشيخ السبيعي الصرافة ونجح فيها عبر عقود عديدة ليصبح واحداً من أبرز رجال الأعمال في هذا الميدان، والكتاب الذي صدر بعنوان (رحلة الفقر والغنى) عن بعض ملامح حياته فيه لمحات عن مسيرة حياة الرجل.
ورغم أنه لم يتلق تعليمه في الجامعات إلا أنه يملك حبل الثقافة في علم البنوك والصرافة وله باع في ميدان الثقافة والشعر فهو شاعر امتلك ناصية الشعر العربي.
وإذا كانت جهوده في مجال علم البنوك والمال والاستثمار خرج من رحمها بنك البلاد فإن هذا إحدى محاسنه العديدة التي لا يتسع المجال للإتيان عليها، أما الجمعية الخيرية التي كان رحمه الله يرعاها بنفسه فهي متعددة الأغراض في مجال البر تمتد أجنحتها الخيرية إلى دعم الفقراء والمساكين والمحتاجين والجمعيات الخيرية المعتمدة من الجهات الرسمية، فأصبحت واحدة من أهم الجمعيات الخيرية التي يشار إليها بالبنان بما قدمته وما تقدمه من أعمال تستحق الإشادة.
أسأل الله الذي اختاره إلى جواره أن يتقبله بأحسن القبول وأن يرحمه برحمته الواسعة ويدخله وارف جناته، ويلهم أنجاله الأساتذة إبراهيم وناصر وعبدالعزيز وإخوانهم وأسرته الكريمة وذويه ومحبيه الصبر الجميل، ولنحدث النفس بالصبر جميعاً نزولا عند قول الحق تعالى {واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} لقمان 17، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر 10.
رغم مرارة الصبر وهول المصاب.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} الفجر (27، 28، 29 ،30).