د. محمد بن إبراهيم الملحم
تتمة لسردي حول الجودة النوعية للتعليم وآثارها على النمو الاقتصادي فقد أشرت في هذا الشأن إلى مساهمة اثنين من مكونات التعليم الأساسية: المناهج والمعلم وأتناول هنا الوسائل والأدوات والأنظمة التعليمية بما فيها نظام التقويم. فأما الوسائل والأدوات ونعبّر عنها بـ«البيئة المدرسية» فليس تحسينها عسير المنال ولا يحتاج إلى مفكر تربوي ليشير إلى ما يمكن تطويره وتحديثه أو إلى مواطن النقص والقصور، أعتقد أن كل شخص يمكنه بسهولة تسمية الحد الأدنى من متطلبات البيئة المدرسية الخلاّقة والملهمة والباعثة للنشاط والحيوية والقادحة للفكر والاستكشاف وملكة التفكير المنطقي والعقلاني أو شغف الإبحار في الفن والجمال وصياغته في سياق تعبيري خلاَّق. إن الأمكنة والتجهيزات والأدوات بكل أنواعها ومستوياتها، التقليدي منها أو الحديث، باتت كلها اليوم سهلة التناول ولا يبقى سوى توفيرها فعلاً وتدريب المعلّمين ومتابعتهم في تسخيرها للعملية التعليمية بشكل فعَّال وبناء، فأين المشكلة؟ لا شك أنها في الإدارة التي لا تستطيع أن تضمن الجودة في هذا المجال ضمن إطارها المركزي، وفي بيئة عدم المحاسبية، الأمر الذي يتطلب تدخلاً جراحياً عاجلاً في إطار هذين العاملين الواضحين فمن المركزية إلى اللا مركزية بمعناها الحقيقي (لا الشكلي)، حيث يتضح تفويض الصلاحيات ويمنع تداخل المسؤوليات، ومن عدم المحاسبية إلى المحاسبية الحقة التي تسحب المقصِّر إلى الخلف وتأخذ بالمحسن والمبدع إلى الأمام، شؤون قيادية صعبة جداً في زمننا هذا لكنها هي الطريق ولا يمكن أن يكون دونها رضينا بذلك أم لم نرتض... فلا يتصوّر أحد أن عبقرياً سيظهر في أحد وزاراتنا ليقدّم أنموذجاً يختلف عمَّا في باقي الكون ينطلق به لننافس الأمم المتقدِّمة مع محافظته على عشقنا للمركزية العزيزة وإدماننا اللا محاسبية التي لا يمكننا الإقلاع عنها!
أما الأنظمة التعليمية فلا شك أن هناك فرصة أفضل للتحسين فيها فما هو متوفر يحتاج إلى تحديث ومواءمة لظروف الوضع الحالي مع الالتقاء مع أفضل الممارسات، فخضوع المعلم لنظام الخدمة المدنية ومعاملته كما يعامل الموظف هو نهج قديم عفا عليه الزمن ولا بد من تغييره جذرياً، ونظام رواتب المعلمين ومساواة المعلم والمدير والمشرف (ومعهم مدير التعليم!) بنفس سلم الرواتب دون تفرقة لمتطلبات العمل القيادي هو منهج يتفرّد به نظامنا التعليمي عن جميع دول العالم ويستحق أن يسجّل ضمن موسوعات الغرائب والعجائب! أما أنظمة التقويم لدينا فكلها لا تقدّم ولا تؤخّر وأولها تقويم الأداء الوظيفي للمعلم والقيادي التربوي، سواء بأدوات القياس فيه أو بمترتباته وممارساته، وثانيها تقويم الطالب وقد سبق أن أشرت إلى مشكلات جوهرية فيه سواء في التقويم المستمر أو في غياب التقييم المعياري المرجعي (الوطني أو المحلي) والذي ينبغي أن تُقاس عليه أداءات الطلاب وأداءات المدارس، أو في الاختبارات الشكلية التي يمارس فيها المعلم الخداع المكشوف، بل غدا طالب اليوم يتعلّمه منه، وبشيء من التطرف الساخر أقول لو ألغيت الاختبارات لكان خيراً من وجودها لنكف عن تعرض الطالب لهذه الخصلة التي لا يكتشفها في معلمه فيكتسبها منه إلا في مناسبة الاختبارات العظيمة! وثالثها تقويم المناهج والبرامج وهو أمر مغيب تماماً فنطاقه لا يتعدى مجموعة من الاستبيانات الباهتة سواء في مجال المقررات أو الإشراف التربوي أو النشاط أو الإرشاد الطلابي لتظل هذه المجالات المهمة والحساسة دون مؤشرات نوعية حقيقية تكشف إلى أي مدى تسهم في الناتج التربوي العام، كل هذه مشكلات نوعية مؤثِّرة في الأنظمة التي تدير العمل التربوي وتحكم علاقاته وقراراته، ولذلك نراه يراوح مكانه في الجودة النوعية ولا يسجل أثراً يذكر في التنمية الاقتصادية، فما لم تمتد يد التغيير «الجريئة» إلى هذه الأنظمة وإلى الممارسات الخاطئة فإن التعليم سيظل مجرد عبء مالي على الآلة الاقتصادية الوطنية بدلاً من أن يكون هو أحد تروسها أو ربما الترس الأكبر فيها.