د. عبدالرحمن بن حمد السعيد
استمعت مع كل أهل الخليج إلى حديثك الذي كنت آمل أن يداوي الجراح ويجمع الشمل ويتجاوز بنا وبكم مأزقاً عرض العلاقة بين أبناء شعبنا الخليجي الواحد لمثل ما تعاني منه أمتنا العربية من التمزق والتشظي والحيرة... أقول إنني كنت أنتظر على أحرّ من الجمر حديثاً يجمع أهل الخيمة الواحدة ويقربهم من بعضهم البعض... وإذا بنا يا سمو الأمير أمام حديث لا زال يتبنى نفس المفاهيم الخاطئة بل إنه زاد الطين بلة.. قد يقول قائل كيف وصلت إلى هذا الاستنتاج؟ وسأجيب عن هذا التساؤل بمثالين من حديث سموك.
قلت يا سمو الأمير إن البعض يعترض على محاولة قطر رفع مستوى سقف حرية التعبير في المنطقة.. وأظنك بهذا تقصد ما قدمته قناة الجزيرة من خدمات في هذا المجال!!
واسمح لي يا سمو الأمير أن أرفع يدي معترضاً... فقد كان من حسن حظي أنني عشت في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات - أي قبل ظهور الجزيرة وحتى اليوم - عصراً ذهبياً لحرية التعبير فتح أبوابه المهرجان الوطني للتراث والثقافة (ما أصبح معروفاً في طول العالم العربي وعرضه بالجنادرية).. يومها يا سمو الأمير شهدت الرياض مشاركات فاعلة لأمثال لطفي الخولي ويوسف إدريس وأيضاً الشيخ الغزالي وغيرهم كثير... واكتظّت قاعات فندق الانتركونتنتال وقاعة الملك فيصل بالذات بالشباب، الذي وقف الكثير منهم على أرجلهم لساعات طوال يسمعون من هذا ويناقشون ذاك... يومها يا سمو الأمير لم يكن هذا المشهد أمراً معتاداً في أي مكان من العالم العربي... لكن هدف الجميع ومبتغاهم كان المساهمة في نهضة عربية ثقافية سامية... لم تكن دغدغة الغرائز والتهم المرسلة ومحاكمة النوايا غايتها... كان الطموح السعودي - ولايزال - ابتداءً بمؤسس الملتقى الراحل الكبير عبدالله بن عبدالعزيز وصولاً إلى راعي الثقافة والمثقفين سلمان بن عبدالعزيز هو بناء كيان ثقافي جامع تلتقي فيه وحوله الأفكار والرؤى البناءة.
ثم جاءتنا قناة الجزيرة بقضها وقضيضها.. وفتحت الباب على مصراعيه للتشكيك والتحريض وما هو أسوأ... وبدل أن يتحرك العالم العربي في مسار انفتاح ثقافي تصاعدي طلب منه وطولب بأن يثور ويدمر كل ما تم بناؤه.. وبدأ الحديث لمزاً أحياناً ومكشوفاً أحياناً أخرى بالتحريض على الأخ والجار والسند... واعتمد أسلوب الإثارة والاتهام ليصبح فيما بعد مبدأً ثابتاً لهذه المحطة تتحين كل فرصة أو سانحة (وإن لم تجدها اختلقتها) لإثارة الفتنة وتحويل المسار التنموي إلى مسار فوضوي.
لم ترفع الجزيرة - يا سيدي - سقف حرية التعبير كما أدعى من كتب كلمتكم.. لكنها سعت إلى رفع سقف حرية التدمير.
وهنا أود أن أسأل سموك.. ما هي في تقديرك مسؤولية الجزيرة وأخواتها عن الأرواح التي تقافزت من القوارب المطاطية لتقضي في أعماق البحار.. هل خطر ببال سموك وأنت تخلد إلى النوم أن الجزيرة مسؤولة عن النهاية المفجعة لفتيان وفتيات في مقتبل العمر... وما مدى مسؤولية الجزيرة عن تحويل حواضر تاريخية كبرى إلى مدن مستباحة تسكنها الأشباح ولا يرى فيها وحولها إلا الخراب.
لقد أصبحت بفضل الجزيرة وأخواتها بعض المدن العربية مثالاً يراه العالم على مدى ما يمكن للتوحش أن يصل إليه.
ومن كرم الله أن شعبنا كان أشد وعياً وأصلب عوداً مما عملت الجزيرة على إثارته واستثارته فبقي متعلقاً بحبال الوطن وفياً لاستحقاقات المواطنة الحقة... ومن يومها يا سمو الأمير فقدت الجزيرة بريقها وأدرك الناس (على الأقل هنا) أنها وجدت لتدمر... ومثلما فشلت في مسعاها إذ ذاك فستفشل اليوم لأن الصورة أمام شعوبنا الخليجية باتت أكثر وضوحاً وأشد صفاءً.
أما المثال الثاني من حديثك فهو قولك إن الدين وازع أخلاقي فقط وأصدقك القول يا سمو الأمير أن هذه الجملة حيرتني أكثر من كل ما ورد في حديثك.
كيف فاتت عليك هذه يا سمو الأمير وأنت ابن هذه الحضارة الذي رضع مع حليب أمه عظمة الإسلام وكمال أركانه واكتمال مقاصده...
منذ الأزل - يا سمو الأمير - والفلاسفة والحكماء يرشدون إلى ما يمكن أن نسميه بالوازع الأخلاقي.. لكن الإسلام جاء بما هو أكبر وأشمل من الوازع الأخلاقي.. الإسلام (وأربأ بك عن غير هذا) نظام حياة.. وأسلوب تعامل... ومجموعة قيم... وطريق قويم... اكتمل به ومن خلاله أفضل ما يمكن للإنسان أن يقيم حياته عليه.. واحسبك موافقني في هذا... إن من تأدب بآداب الإسلام وأدرك مقاصده الخيرة الداعية إلى المحبة والتسامح والهادفة إلى الرقي ببني البشر في كل مجال من مجالات حياتهم لا يقبل أو يرضى باختزال هذا الدين العظيم في جانب واحد فقط من جوانبه الكثيرة.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3). صدق الله العظيم..
أرجو يا سمو الأمير أن يتسع صدرك لرسالة محب للخير لك ولأهل قطر الذين نكن لهم كل الود والتقدير..
والله من وراء القصد.. وهو الهادي إلى سواء السبيل.