د. عبدالرحمن بن حمد السعيد
ناضل الأمير سعود بكل قوة وعزيمة ذوداً عن مصالح والتزامات ومواقف هذا الوطن وكان رغم الآلام القاسية حاضراً في كل المنتديات السياسية والثقافية والاقتصادية.. كانت شخصيته التي تبعث على الهيبة والاحترام وعباراته المصاغة بميزان دقيق يجمع بين الحكمة والتجربة العميقة والدراسة المستفيضة لمختلف القضايا محل تقدير واحترام المحافل الدولية والمثقفين وصناع الرأي... وليس من رأى كمن سمع...
وسيجد الباحث والمؤرخ بعد سنين طويلة نفسه أمام شخصية اكتملت لها عناصر التميز التي خص بها الله سبحانه وتعالى المحظوظين من القادة والمفكرين...
من هنا فقد كان اعتماد قادة هذا الوطن... على تجربة وحكمة وحنكة الأمير سعود كاملاً.. وكانت ثقتهم في آرائه ورؤاه مطلقة... لم يتعامل سموه - رحمه الله - مع المنصب والمسئولية كواجب فقط لكنه انخرط فيهما فيما يشبه الجهاد الدائم...
أصحاب السمو
أصحاب المعالي
الأخوات والإخوة الكرام:
أدرك الأمير سعود ببصيرة ثاقبة ونظرة استشرافية نادرة منذ اليوم الأول لغزو صدام للكويت أن هذه الخطوة ستؤدي إلى عواقب وخيمة أياً كانت نتائجها... فمحاولة دولة كبرى ابتلاع جارة أصغر منها هي في نهاية المطاف تقويض لأسس التعايش ومقتضيات الجوار وقواعد القانون الدولي وموجبات التعاون والتضامن العربي وهي أيضاً سابقة إذا سمح لها بالنجاح فستلتهم الحاضر والمستقبل وتخرج الأمة بشكل نهائي وكامل من سياق ومسار التاريخ.. ففي ضربة واحدة قام نظام صدام حسين بانتهاك كل الأعراف والقوانين وأعلن أن قانون الغاب هو ما يحكم علاقته بالجميع.. وهكذا فلم يكن لرجل متمرس في ضرورات وموجبات التعايش والتعاون أن يقبل بهذا الأمر وبما سينجم عنه من تدمير لمستقبل الأمة وأجيالها التي تحتاج للاستقرار.. كان - رحمه الله - يملك حساً تاريخياً وفهماً سياسياً والتزاماً قومياً ودينياً جعله ينفر من أساليب الديكتاتورية والتسلط ويرى فيها نذير شر وشؤم على الأمة.. هذا النفور المبني على قراءة واعية ومستوعبة لدروس التاريخ سمعته منه أول مرة - رحمه الله - في مناسبة سأظل أذكرها ما حييت...
ففي مثل هذا الوقت تقريباً من عام 2001م كان ولي عهد المملكة إذ ذاك وخادم الحرمين الشريفين فيما بعد الملك عبدالله - رحمه الله - في زيارة لليمن.. ولأمر ما استأذنت في العودة للمملكة وكان من حسن طالعي أن الأمير كان ينوي العودة للرياض في نفس المساء رجوته أن يأذن لي بمرافقته ووافق - رحمه الله -.. خلال رحلة العودة أكرمني - رحمه الله - بحديث امتد لكل الرحلة.. وكان في ذهني أسئلة كثيرة.. وكان كريما حين شرح لي الكثير مما خفي عليّ لكنني لاحظت أنه - رحمه الله - يكرر امتعاضه بل نفوره الشديد من الحكام الطغاة المستندين لقوة الحديد والنار... وكان هذا أكبر مصادر خوفه على مستقبل الأمة.. لم يكن هذا موقفاً شخصياً فقط (وهو في هذا محق كما أثبتت الأيام) لكنه كان موقف المثقف قارئ التاريخ الواعي لطبيعة العصر... كان - رحمه الله - يدرك أن الحاكم إذا انفصل عن أحلام وآمال وأشواق شعبه وأصبح عدواً لها فإنه يكون بذلك قد كتب نهايته بنفسه.. هذا ولاشك كان موقفه القوي والواضح في كل ظرف أو حال مماثلة...
لقد أثبتت الأيام صحة نظرته - رحمه الله -... فبينما لفظت الشعوب عتاة الديكتاتوريين بقيت قيادات الخليج القريبة من أهلها ومواطنيها عزيزة منيعة...
إذاً فمن هذا المنظور الذي يمزج بين الأخلاقي والقيمي والسياسي والواقعي والالتزام القومي انبرى الأمير سعود الفيصل - رحمه الله - للتحدي الذي شكله صدام حسين وأضرابه... فلم يكن حرياً بالرجل الحريص كل الحرص على البيئة والحيوان والنبات أن يركن لمن يمكن أن تشكل أعماله وأساليبه تدميراً مؤكداً للبيئة الإنسانية والقومية والإقليمية...
وقد جاءت كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد - رحمه الله - منذ بداية الغزو لترسم للأمير سعود الفيصل ولكل أجهزة ومؤسسات هذا الوطن خارطة الطريق واضحة حين قال - رحمه الله - «إن الأمور قد سارت - مع الأسف الشديد - عكس الاتجاه الذي كنا نسعى إليه بل وعكس تطلعات شعوب الأمة الإسلامية والعربية وجميع دول العالم المحبة للسلام وجرت الأحداث الأليمة المؤسفة للثاني من أغسطس 1990م على نحو فاجأ العالم بأسره عندما اجتاحت القوات العراقية دولة الكويت الشقيقة في أبشع عدوان عرفته الأمة العربية في تاريخها الحديث».. انتهى
وانطلاقاً من هذا التوجه الواضح فقد حدد الأمير سعود - رحمه الله - أسس ومنطلقات الرفض السعودي لهذا الاعتداء الصارخ عندما قال في كلمة أمام الأمم المتحدة جمعت بين الرصانة الدبلوماسية والحفاظ على أسس وأصول القوانين والشرعية الدولية والانتصار لحقوق الشعب الكويتي وقيادته ومؤسساته..
«المملكة العربية السعودية اتخذت موقفاً حاسماً رافضاً لهذا الاعتداء.. رافضاً لكل ما ينشأ عنه.. رافضاً لكل ما يترتب عليه.. واليوم تعلن المملكة من هذا المنبر - منبر الشرعية الدولية - أنها تقف مع العالم بأسره في مواجهة الغزو المستمر.. ومن هذا المنبر توجه المملكة العربية السعودية تحية تقدير وإكبار إلى شعب الكويت الشقيق، ومن هذا المنبر بالذات نعلن الرفض القاطع لاستيلاء دولة على أراضي دولة أخرى بقوة السلاح.. ونعلن الاصرار على انسحاب القوات العراقية فوراً من أراضي الكويت دون قيد أو شرط وعودة حكومتها الشرعية وسحب الحشود العراقية من حدود المملكة العربية السعودية..» انتهى..
وككل مبادرة أو جهد أوكلت القيادة لسموه (رحمه الله) مهمة تنفيذه أو التنسيق له بين قنوات الشرعية الدولية ومنظماتها المختلفة وأجهزة الدولة السعودية استطاع - رحمه الله - أن يوصله إلى نهاياته المرجوة بدون الإضرار بثوابت ومقومات السياسة والسيادة الوطنية...
لقد أدرك - رحمه الله - وهو القارئ المتمعن للتاريخ أن صدام حسين قد أدخل العمل العربي المشترك في نفق مظلم سوف يجر على الأمة ويلات ستعاني من تبعاتها لسنين طويلة..
كانت مأساة غزو صدام للكويت مؤشراً ودليلاً قوياً على ما يمكن للحكم غير الرشيد أن يرتكبه من حماقات لا تتوقف مآلاتها ونتائجها الوخيمة أمام أبواب الحاكم النزق وحده بل تطال أضرارها المصاحبة أو ما يسمى بال collateral damage القريب والبعيد..
إن أي نظرة تحليلية بسيطة لمجريات هذا الغزو وردود الفعل تجاهه ستؤدي حتماً إلى استنتاج غاية في البساطة... فلقد وضع صدام حسين من حيث لا يدري الأسس لدمار النظم الشمولية الحاكمة بالحديد والنار والترويع والتجويع.. ولقد كان المرحوم بثقافته العالية وقراءته الفاحصة والمستوعبة للتاريخ ودروسه ولطبيعة القوى والقيم التي تحكم الجزء الأخير من القرن العشرين في القلب من هذا الفكر المستنير.. وإذا جاز لنا أن نستخدم مقاربة ذهنية لهذه الحال فإن بالإمكان إن نقول إن الشخصيتين صدام وسعود الفيصل ربما كانا المثل الأوضح على مدى التنافر بين رجل عاش عمره في أقبية العمل الحزبي ودهاليزه المظلمة واعتمد أساليب المؤامرة والمناورة التي لا تعرف إلا قاتلاً أو مقتولاً... وآخر تربى في بيئة ومدرسة أسسها المغفور له عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل على قيم التسامح والصبر.. ثم اكتملت مقوماتها في أعرق جامعات العالم مضيفاً لها ما أستطاع من خلال دراسة جادة للتاريخ والحضارة... هذا رجل لا يعرف إلا الحلول الإقصائية.. وذاك رضع من تجربة تعرف أن الحوار والتسامح وتلمس العذر للآخر هي وحدها القيم المؤسسة لحكم وحياة أفضل... وهكذا فقد انبرى سعود الفيصل لهذه المعركة متسلحاً بتوجيه وتقدير وثقة قيادة حكيمة ومجربة.. مدركاً أن الإجماع والتاريخ والحق إلى جانبه.. كيف لا وهو يدافع عن جملة من المواقف الواضحة التي يمكن إيجازها على الشكل التالي:
أولاً - الكويت وأهلها جزء أصيل من النسيج الخليجي تربطنا بهم أواصر التاريخ والقربى والجوار.
ثانياً - تقف الشرعية الدولية بكل ثقلها ومؤسساتها في صف المملكة والخليج.
ثالثاً - إطفاء نار الفتنة التي حاول صدام إيقاظها بمعاونة البعض والتي كانت تمثل تهديداً حقيقياً للنظام والمستقبل العربي.. ومعول هدم لأحلام وأماني أجيال تنتظر مكانها ودورها في عالم يسوده الاستقرار والرخاء.. وهو ما نجح الغزو وللأسف في هدر جزء غير يسير منه..
رابعاً - إن مجمل القيم والحجج والأعذار التي تذرع بها صدام ويتذرع بها أشباهه لم تعد تنتمي لهذا العصر (هذا إن كان بعضها قد وجد قبولاً أو تقبلاً في مراحل سابقة).. بل إنها في حالة صدام مع كل منطق أو قيمة سياسية أو أخلاقية..
وبالنسبة لطلاب التاريخ فإن هذا يمثل أصدق تمثيل الصدام بين عالمين متناقضين أقصى حدود التناقض..
إنه صدام القيم الصاعدة والمتراجعة في أجلى صوره (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) صدق الله العظيم..
أصحاب السمو
أصحاب المعالي
الأخوات والإخوة الكرام:
اسمحوا لي قبل أن أنهي هذه المداخلة المتواضعة أن أشير في عجالة إلى بعض ما يجول في الخاطر ونحن نتحدث عن رجل أثرى الحياة بعطاءاته..
الملمح الآخر جاء على لسان رئيس مجلس العلاقات العربية والدولية محمد الصقر عندما قال في إيجاز بليغ «إن الأمير سعود اجتمعت له عبقرية الموهبة وكفاءة المجهود.. وكان نموذجاً للفرد المبدع باعتباره القاطرة التي تقود عربة التاريخ إلى الأمام»..
كما استوقفني ما أوردته ربما أهم جريدة في العالم واقصد Financial Times حين نقلت عن الشيخ عبدالله بن زايد ما سمعه من ميخائيل غورباتشوف الذي كان يقول متألماً: «لم يكن الاتحاد السوفياتي لينهار لو كان الأمير سعود أحد قادتنا»...
ملمح آخر: حيث تحضرني ذكرى لقاء أقامته إحدى الشخصيات المهتمة بالشأن العربي في واشنطن وحضره ثلة من المفكرين وكتاب الرأي والمعنيين بالعلاقات العربية - الأمريكية.. وأتذكر أنني عندما استأذنت من صاحب الدعوة للمغادرة تبعني أحد كبار المثقفين والإعلاميين المعروفين - وكان للحق رجلاً موضوعياً في طرحه لقضايا العرب والمسلمين تحظى كتبه وكتاباته باحترام شديد.. وسألني بأدب جم إن كنت سألتقي الأمير سعود الفيصل قريباً.. فقلت له: لا أعتقد إلا إذا طرأ ما يستوجب ذلك..
قال الرجل: أرجوك أن تبلغه أنني مستعد للمشاركة في تحرير أو مراجعة مذكراته أو المشاركة في إخراجها بأي شكل يراه... فأنا أعرف أن رجلاً مثله لا يملك الوقت لمراجعة كل حرف..
وأنني لا أطلب لشرف هذه المشاركة أي ثمن أو قيمة مادية.. ما أطمح إليه هو أن أكون فقط عاملاً مساعداً على نشر تجربته الدبلوماسية الثرية لما لها من فائدة كبيرة وبدون أي مقابل...
أتيح لي شرف لقاء الأمير بعد ذلك.. وذكرت له ما قاله الرجل..
فقال لي: أرجوك تبلغ صديقنا شكري واعتزازي بعرضه الكريم..
وقل له إننا في هذا الجزء من العالم نحتاج لجهود الشرفاء من أمثاله... وعندما يتاح وقت كتابة مثل هذه المذكرات فإنني لا أستغني عن جهود مثقف شريف ومنصف وموضوعي مثله.. ونظر إلي قبل المغادرة.. وقال: آه من الوقت!!! ورغم زحمة المواعيد وكثرة المشاغل فقد كان - رحمه الله - كريما حين يشعر بحاجة الآخرين للمساعدة والتوجيه.. وأتذكر أنني اتفقت مع مجلة «نيوز ويك» على نشر عمود أتطرق فيه لمبادرة المغفور له الملك عبدالله للسلام وأطالب بالتحرك الدولي لتطبيقها.. وقد كان للمحرر وجهة نظر بل اعتراض على إحدى النقاط التي أثرتها في المقال.. كنت في حيرة من أمري فاتصلت به - رحمه الله - طالباً العون والتوجيه.. فدعاني لمنزله العامر وتحدث في كل شيء إلا ما جئت من أجله... نظر إلى ساعته وتهيأ لموعد آخر.. وقبل أن أغادر طلب مني أن أقرأ عليه النقطة المشكلة.. فاقترح بدون أي جهد صيغة أخرى تحقق نفس الهدف لقيت قبول المحرر.. وهكذا خرجت وفي جيبي مكسبين: استمتعت بحديثه الشيق المفيد.. وحللت معضلة أقضت مضجعي»
رحمه الله.. وجعل ما قدم من عطاء لوطنه وأمته في موازين أعماله..