حين قرأت رواية براري الحمى في طبعتها الأولى وجدتها سيرة ذاتية لمعلم مغترب، فكيف يصح أن يطلق عليها رواية؟!
في السنوات الأخيرة أصبحت الرواية الأشهر «براري الحمى» حديث المجالس لمثقفي العرضيات، كونها لم تصل إلا بعد عصر الإنترنت، وأكثر الجدل كان حول وقتها وشخوصها وأبطالها، مبدين امتعاضهم ممن كتبها حين وصف بلدات هي كباقي مناطق المملكة لم تصل يد التنمية إليها بعد. وما أثار غضب البعض حين وصمها بأرض المرض، فقاموا بتوجيه النقد المباشر للروائي إبراهيم نصر الله وروايته التي جرت أحداثها في العرضيات التابعة للقنفذة، ولم يكن النقد مبنياً على أساس علمي، وقد خرجت طبعتها الأولى في العام 1985م والطبعة الثانية في العام 1992م، أما الثالثة فكانت في سنة 1999م، وفي رأيي الشخصي أننا أشبعناها نقداً بتسخير الأقلام على السلبيات ولم نفكر أن نتناولها من الجانب الإيجابي بنوعٍ من الإنصاف، وقد يجتمع في الشيء الواحد محاسن ومساوئ، والمنصف ينظر إلى هذه وإلى هذه، وأثناء رصدي لآراء من تحدثوا عنها من خارج منطقة الرواية لم أجد من وجّه نقداً للكاتب فيما يتعلق بإنسان ومكان الرواية بل على العكس، وقد أحسن عرّاب الرواية إلى تلك البلاد من حيث لا يشعر حين وثّق مظاهر الحياة الثقافية والصحية وبعض الأحداث والعادات الاجتماعية لدى الأهالي منذُ أكثر من أربعين عاماً، كتاريخ مرور الطريق العام عبر العرضيات والذي يعد حدثاً مهماً لديهم، وحين أشار إلى شركة جراند لافوري الإيطالية التي نفذت الطريق، والفترة الزمنية حتى يكتمل الطريق، وجدل إنسان ذلك الزمن عن الفائدة والجدوى من شق الطريق، وما صاحب ذلك من مشاعر الأهالي.
ولو قلنا إن الأماكن التي جرت بها أحداث الرواية على سبيل المثال ثريبان، ونَمِرَة، وسبت شمران، والقنفذة، ونقمة، والسواد، وعمارة، وبلحارث، ونخال، وترجمت إلى ثلاث لغات ووصلت للغرب والشرق لكان أمراً إيجابياً كافياً وشاهداً للعيان وثق مرحلة من تاريخ تلك البلاد، أما الأمر الآخر وأصفه بالإيجابي كذلك حين اختارت صحيفة الغارديان البريطانية الشهيرة رواية براري الحمى كواحدة من أهم عشرة كتب عبّرت عن العالم العربي، وقد خدم الكاتب مكان الرواية من حيث لا نشعر.
ووثق نصر الله معلوماته حين قدم إلى العرضيات وكانت العادات والتقاليد هي السمة الطاغية على حياة الناس وعلى المكان، وهذا الأمر وجدناه واقعاً أثناء بحثنا واستمر إلى عهد قريب.
وحدّثنا إبراهيم في روايته عن حياة الناس في السبعينات وعن سكان العرضيات البسطاء وميسوري الحال ووصف لنا بيوتهم وصفاً دقيقاً وطريقة عيشهم وبعض السلوكيات وصرح ببعض الأسماء، وأشار إلى الأبنية الحجرية القديمة في العرضيات وألمح إلى شبابيكها العالية، ومن المعلوم أنها كانت بتلك الصفة وفي القرون التي مضت بسبب الجانب الأمني.
وتحدث عن طريقة اللباس حين قدومه، وعن الأسعار، وجلب الثلج من جدة عبر القنفذة وبيعه بالكيلو، وألمح إلى أن الصحف تصل بواسطة الشاحنات إلى العرضيات، ولكن للأسف يمر على صدورها أكثر من شهر، وتصل بواسطة موظف البريد أحياناً، وأخبرنا عن الأدوات المستخدمة في ذلك الزمن وسماها بأسمائها، وهي لم تعد تستعمل كالعطيف والدلو وحبل الرشا والكشاف اليدوي والطبّاخة الخضراء وطاولات المقاهي الخشبية، وتصويره للحياة ليلاً في العرضيات من خلال أبواب الخشب القديمة التي تكون بصرفين ويتسرب الضوء للناظر من الخارج من خلال شقوق الباب.
أشار إلى عقد مجالس السمر في تلك السنوات، وإقامة الـ عَرْضَة، وتحدث عن كثرة مفتشي التعليم الذين يأتون إلى قرى العرضيات صباحاً ومساء وكلماتهم الجميلة في سجل المدارس، وفي ذلك إشارة إلى أهمية التعليم هناك، وذهب إلى تاريخ حرب قديمة وقعت في العرضيات في زمن ما، وهذا توثيق للتاريخ، وقد أطّلعنا من خلال الكاتب على أسماء بعض الموظفين في القطاعات الحكومية حينها وبعض الدوائر التي قامت هناك.
ومن المعلومات التي وردت في الرواية الحديث عن الأسواق الشعبية، حيث تؤيد ما ذكره بعض الرحالة أمثال جون فيلبي والمؤرخ محمد عمر رفيع. وتحدث نصر الله عن توزيع تلك الأسواق على أيام الأسبوع، لكل سوق يوم يقع في قبيلة معينة، ولا أحد ينكر أنها معلومات مهمة للباحث من خارج المنطقة.
والحديث عن الآبار ووضعية الماتورات في وسط البئر قريبة من المياه وامتداد الأنابيب إلى الأعلى لتصب في خزانات إسمنتية وهذه أيضاً معلومة وثقتها هذه الرواية.
وبعيداً عن الخيال والأسلوب الروائي والمشاهد والمقطوعات المسرحية في هذه الرواية إلا أننا وجدنا كثيراً من العادات كانت واقعاً لا يمكننا أن ننكره وليست في العرضيات فحسب وإنما في القنفذة ومنطقة عسير بشكل عام.
أما بالنسبة للملامح السلبية فقد تحدث عنها الكثيرين ولن أكرر ما ذكروه، ولكن سأشير للقليل مما قرأته أنا، إضافة لرأيي الشخصي، فبعد أن أتممت قراءة الرواية تبين لي في بعض أجزائها تراجع الوعي وتقدم اللاوعي، وبها بعض النصوص مفتوح النهايات ولغته لغة هذيانية، ويشعر القارئ أحياناًً في بعض نصوصها أنها كابوس، والبعض يصف هذه الرواية، ولنقل تلك المذكرات بالهلوسة رغم أنها غير تقليدية ورائعة من حيث السبك اللغوي وما كُتِب عنها بانتمائها لنوع أكثر حداثة من الحداثة نفسها ويطلق عليها ما بعد الحداثي.
يقول إبراهيم إن العرضيات بتضاريسها أماكن مرعبة تلغي الواقع والحلم وتلغي التاريخ وتلغي الهوية والزمن، وفي الحقيقة أنه لم يكن موفقاً في هذه الجزئية والواقع غير ذلك تماماً.
ومن الأمور التي تجاهلها نصر الله وكان يجب أن يكون منصفاً، السلوك الذي مارسه بعض بني جنسه مع طلابهم البسطاء.
ويرى البعض أن الروائي أهدر كرامة الأشخاص الذين أسقط عليهم أبطال الرواية، حيث ذكر الأستاذ غازي الفقيه أن بعض الأهالي لا تزال كرامتهم تئن من مطرقة التشهير منذُ الثمانينات الميلادية في القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ومع وافر تقديري للأديب الأستاذ غازي ولرأيه، ولكن بصفته ناقداً لماذا لم يلقِ الضوء على إيجابيات الكتاب؟.
وفي نهاية الرواية لو قدر للروائي إبراهيم نصر الله زيارة العرضيات والقنفذة اليوم لوجد فيها اختلافاً كثيراً في جميع مظاهر ومناحي الحياة التعليمية والصحية والثقافية، أخيراً وإن كنت أتفق مع بعض ما ذهب إليه تارة واختلف معه تارة أخرى إلا أني أجدها وثيقة قديمة عن محافظة العرضيات من الجانب التاريخي، واختلف معه أكثر في وصفه وشتمه لأهل تلك البلاد وقطعاً كان مخطئاً في شتائمه للأرض وسكانها. ولا أجمل من قول محمد بن فرّاج في الرجز عن محافظة العرضيات:
أجمل الوديان تحت رضاها
بالقراح العذب ينبع ماها
من يبه والا قنونا
جفن والحفياء حياة الوارد
من مناهلها وماها البارد
كل زائر تحتضن له
- عبدالهادي بن مجنِّي
bnmgni@hotmail.com