د.عبد الرحمن الحبيب
نهاية داعش في الموصل قد لا تُنهي أزمات العراق الطاحنة، وأخطرها المليشيات الطائفية التابعة لإيران؛ فما حجتها للبقاء خارج سلطة الدولة؟ الحجة القادمة هي إدعاء «المقاومة» ضد الوجود الأمريكي كما عبر جعفر الحسيني أحد قادة المليشيات المتطرفين، مستلهماً تجربة «حزب الله».
إيران من جهتها سعت لاستنساخ صنيعتها «حزب الله» كمليشيا خارج الدولة وتابعة لها، منذ عام 2003. الاختلاف هنا أن حزب الله في لبنان تشكَّل سياسياً تحت ذريعة المقاومة ضد إسرائيل الذي تكشَّف خواؤها، واجتماعياً بزعم تبني قضايا شيعة لبنان، وتنظيمياً تحت مليشيا واحدة. أما في العراق فالمقاومة ضد من؟ ومن يدَّعي تبني قضايا الشيعة؟ العديد من المليشيات المتنافسة: «منظمة بدر»، «كتائب حزب الله»، «عصائب أهل الحق»، «جيش المهدي».. إلخ؛ فضلاً عن تفرعات لفصائل ثانوية أشد تطرفاً..
إذا كان نموذج «حزب الله» لا يبدو احتمالاً مرجحاً، فما هو الاحتمال الآخر؟ هناك من يطرح نموذج الحرس الثوري أو الباسيج الإيراني المتهمين بالإرهاب. منذ 2013 استغلت المليشيات المدعومة من إيران تراجع فاعلية قوات الأمن العراقية النظامية وتزايد التهديدات الأمنية خاصة من داعش، وأصبحت تلك المليشيات أمراً واقعاً لا سيما مع إضفاء الشرعية عليها من رئيس الوزراء المخلوع نوري المالكي وخُصصت لها مبالغ طائلة مع تزكيات المرجعيات الدينية.
ورغم أن هذه المليشيات طائفية تُعلن ولاءها للمرشد الأعلى الإيراني وتحارب التوجهات التحديثية للدولة العراقية بحجة الغزو الفكري الغربي، وتغرس ثقافة الجهاد ضد أمريكا، وتلمح للاستعداد -بعد دحر داعش- لمواجهة الجيش العراقي باعتباره صنيعة أمريكية؛ إلا أنها صارت رسمية بما يمكن أن يجعلها مشابهة للحرس الثوري الإيراني، ولها قوة ضخمة (نحو 122 ألف عنصر)!
لكنها تختلف عن الحرس الثوري من ناحية استمرار الشرعية والتمويل بعد هزيمة داعش؛ فأعلى مؤسسة دينية (السيستاني) تستعد -حسب مراقبين- لإصدار فتوى جديدة تُنهي شرعية قوات الحشد الشعبي بعد انتهاء مهمتها، ودمج عناصرها في المؤسسات الرسمية أو تسريحهم بعد تعويضهم. كما أن مليشيات الحشد الشعبي أضعف تمويلاً مقارنة بالمؤسسات الأمنية النظامية مما يُعطل تقدمها المفترض لتشكل قوة مشابهة للحرس الثوري؛ إلا في حالة انتخاب نوري المالكي أو أحد جماعته التابعة بالمطلق لإيران. هنا، سيتلقى الحشد الشعبي مزيداً من التمويل والشرعية وقد يحولها إلى وزارة أمنية جديدة. ولكن الحشد الشعبي سيواجه صعوبة منافسة المؤسسات النظامية مثل: قوات الأمن العراقية (وزارة الدفاع)، جهاز مكافحة الإرهاب، وزارة الداخلية؛ فضلاً عن عدم استعداد المجتمع الدولي لرؤية كيان إرهابي يتشكل على غرار الحرس الثوري أو الباسيج.
ما هي أكثر المليشيات العراقية احتمالاً لتتشكل على غرار الباسيج؟ إنها «منظمة بدر» التي قامت بعمليات عسكرية بالثمانينات والتسعينات ضد النظام العراقي ممولة ومدربة من إيران.. وقد عاش أغلب عناصرها في إيران وبعضهم ولد هناك ويحمل الجنسية الإيرانية. وفي عام 2003 انخرطت المنظمة ظاهرياً في العملية الديمقراطية لكنها حافظت على تبعيتها المطلقة لإيران. وهي سبقت الحشد الشعبي بسنوات وصار لها نشاطاً اجتماعياً وانتشاراً في مؤسسات الدولة، إذ يقود بعض عناصرها وزارة الداخلية العراقية فضلاً عن نفوذها في وزارة الدفاع، ولديها 22 مقعداً من أصل 328 في البرلمان، ونفوذ متزايد في مجالس المحافظات وسط وجنوب العراق.
لكن حتى لو اُنتخِب عنصر تابع لإيران في انتخابات العام القادم، فهناك أسباب تمنع تحول أيا من المليشيات لتنظيم على غرار الباسيج، فهذه المليشيات لا تسيطر بالكامل على العراق، وهي تابعة بالكامل لإيران ولا يوجد لديها أجندة وطنية، ولا يوجد فصيل واحد متفق عليه يمكن لإيران أن تخصه بالدعم دون المليشيات الأخرى المتنافسة..
وإذا ما حوَّلت أحد هذه المليشيات قوتها ضد الوجود الأمريكي بعد دحر داعش فسيعني القضاء على فرص مشاركتها في الحكومة وقدرتها على العمل العلني، وقد تُجبر على العمل السري. لذا من غير المرجح أن تتحول أياً من تلك المليشيات إلى تنظيم على غرار حزب الله أو الباسيج. ومن هنا قد تلجأ إيران إلى دعم فصائل متفرعة عن هذه المليشيات وأكثر تطرفاً للهجوم على القوات الأمريكية حسب المصالح الإيرانية..
كذلك من المرجح، وفقاً لمراقبين أمريكيين، ألا تتفرج أمريكا تحت إدارة ترامب، ولن تكرر الانسحاب السريع الذي حصل عام 2011، ولا تكرار حالة الجهاد الأفغاني الذي انقلب ضدها.. وستدعم مؤسسات الدولة وقد تسمح بانخراط بعض عناصر المليشيات في المؤسسات النظامية طالما التزموا بالقواعد الرسمية، وستحاول التخلص من العناصر الأكثر تطرفاً.. ومنع خلق مناخ طائفي، وستواجه تشكيل مؤسسات عسكرية جديدة ذات نفوذ إيراني..
كل ذلك سيعتمد على عدة عوامل داخلية وخارجية.. داخلياً هناك انتخابات العام المقبل ومعها توجهات الحملات الانتخابية والمزاج العام والقيادات السياسية والدينية ثم نتائجها.. وخارجياً هناك التواجد الأمريكي والتحالف الدولي الذي سيدعم المؤسسات النظامية وسيواجه الكيانات الطائفية التابعة لإيران.. فكلما تراجعت واشنطن في العراق كلما تقدمت طهران..
... ... ...
(*) المعلومات الأساسية في المقال استندت على تقرير معهد واشنطن 9 مايو 2017