رحل الأستاذ تركي بن عبدالله السديري، رئيس اتحاد الصحافة الخليجية، ورئيس هيئة الصحفيين السعوديين، رئيس تحرير صحيفة الرياض الأسبق، الذي أكمل مشواره معها مشرفا عاما، رحل – رحمه الله - وترك لما بعد الرحيل الكثير يدون عنه بوصفه الإداري «العملاق» الذي يسكنه إنسان متواضع نبيل.. وصادق فيما يحدثك به عن مشوار حياته، أو حتى عن الآخرين بحيادية وإنصاف، سواء كانوا أشخاصا، أو جهات ذات شخصية اعتبارية في الصحافة السعودية خاصة، أو الخليجية أو العربية، وما يدور في ميادينها وخلف كواليسها على المستوى العربي من حراك وإيديولوجيات مختلفة.
حكايتي لا تبدأ من هذه المقدمة المستهلكة في الحديث عن فقيد الصحافة العربية، إلا أنها بمثابة مدخلا لمستويات عدة من أحاديث «مسائية» كنت وغيري من الرفاق ممن عملنا في القسم الثقافي ننتهز الفرصة حتى نسمع رأيه فيها، ولن أتحدث هنا إنابة عن أستاذي سعد الحميدين، أو الصديق علي عبود آل معدي، او الزميل عماد العباد، أو الزميل عبدالعزيز الصقعبي، وآخرين كانو يشاركونني تلك الأحاديث معه – رحمه الله – لكني سأقتصر الحديث على حوارات خاصة، إذ عرفت جوانب من شخصية تركي السديري خلال عملي من مركز الصحيفة لعشر سنوات، من خلال إعداد صفحات الثقافة اليومية، وصفحة الرأي، إلا أن تكليفي بـ«مسؤول مقالات الكتاب» هي التي جعلتني أتعامل معه ليل نهار عبر ثلاث فترات كان يأتي فيها إلى الصحيفة يوميا، ومن خلال جواله الذي لم أجده يوما مغلقا، فلم يهمل أي اتصال به سواء كان داخل المملكة أو خارجها، بل إنني عندما كنت في إجازة وأهنئه بـ«رسالة» بمناسبة ما ومنها العيدين، يرد باتصال هاتفي، ذلك الهاتف الذي لن تفارق مسامعي نغمته بصوت طفلة أظنها حفيدة: «بابا تركي، بابا تركي، رد بكيفك».
عندما كنت أعرض عليه ملاحظة على مقال ما، كان يسألني عن سبب الملاحظة حتى أنتهي، فقد كان منصتا عجيبا، لأسمع منه بعدها رأيه الذي كان يضعني أمام زوايا مختلفة من النظر إلى المقالة، والظروف المحيطة بمناسبتها، أو امتداد جذورها، بل كان يناقشني في العديد من التعقيبات على ما ينشر، ليجعلني في مسؤولية أخرى، هي مرحلة متابعة ما بعد النشر، كان عنصر «المفاجأة» في الحديث التي قد يكون منها نكتة ذات علاقة بصلب الموضوع إما معاصرة أو من تراثنا العربي أو تاريخنا العربي، بل كان يسألني عن ما قرأه في الصحف الأخرى من مقالات، وكأنك في مهمة أخرى أمام ما ينشر من مقالات تتعلق بالمناسبات المختلفة، التي تأتي الوطنية منها على قائمة أولوياته وبالغ اهتماماته، ليدخلك معه في قراءة «مقارنة» مع ما تنشره الصحيفة والصحف المحلية، والخليجية والعربية عن المناسبة نفسها.
كان غالبا «القاص» تركي السديري، ما يحط رحاله في الفترة المسائية - الثانية - في القسم الثقافي، بعد مروره بمختلف الأقسام، وكأن الأدب ما يزال يشده إليه، في أغلب زيارته كان ولا بد أن يتحدث إلينا عن كتاب قرأه، إذ لم يكن حس النقد، وحضور الطرفة، تفارق ما يطرحه من آراء، فقد كان مولعا بمناقشة قضايا الأدب مغرما بالاستشهاد بالشعر فصيحه وعامية، لينهي الحوار قبل مغادرة بحكاية طريفة، أو «نكتة» لم تكن تغيب عن حديثه حتى وهو في بعض الحالات الصحية العارضة التي لم تكن تمنعه من الحضور المعتاد، إذ أعطى للصحافة حياته، وجهده، وقلمه، وكل وقته..
لقد رحل عميد الصحافة العربية، ولن ترحل سيرته، فليته كتب مذكراته.. أو ليتها أن تكتب.
وكأني بفقيد المشهد الوطني لو خير في تلويحة أخيرة يودع بها «الرياض».. الرياض الصحيفة.. والرياض المكان، لما أخطأت ذائقته الأدبية التي أعيها جيدا قول الشريف الرضي:
وتلفتت عيني، فمذ خفيت
عنها «الرياض»، تلفت القلب!
** **
- محمد المرزوقي