الثقافة - محمد هليل الرويلي:
ضيف «الثقافية» واسيني الأعرج يؤكد في ثالث أجزاء الحوار أننا إذا حولنا النص الأدبي إلى وثيقة سياسية فسنفقد الخاصية الأدبية وسنفقد الإسهام الذي يمكن أن يسهم به الكاتب من خلال التنوير العام, ويقول إن الكثير من النصوص التي كتبت عن هذه الثورات العربية كتبت عن ترديدات لما هو سياسي ولما هو «أيدلوجي» وبالتالي لم ترق إلى الخاصية الأدبية وعمرها محكوم بالظرفية بمعنى أنه عندما تنتهي هذه الظرفية ينتهي هذا الفعل التأثيري الأدبي ويشير إلى أن داعش م اهي إلا مظهر من مظاهر الهزيمة الثقافية العربية بعد أن هُزمنا في (الحداثة) التي كان من المفترض أن تأتي بالعقل وتأتي بالتنوير. الحداثة التي كان من المفترض أن تأتي بالعقل وأن تأتي بالتنور وأن تأتي بجيل من الناس يقطعون تماماً مع اليقينيات ومع ما هو مطلق ويذهبون نحو ما هو إنساني كما يرى أننا هُزمنا بكل المشاريع العربية رغم أننا تتبعنا كل الموجات.. كما يؤكد الأعرج أننا لن نهزم داعش سوى بحرب تنطلق من ثلاثة أبعاد انتصارًا للحياة لصالح الحياة وليس لصالح القتل.
* الظروف التي تعصف بالوطن العربي من ثورات وانتفاضات ناهيك عن تنشيب مخالب الفتن وكلاليب الطائفية هي أحداث تمور بإحساس الأديب وتسلبه خطى الاتزان بين هذه الفوهات الحممية كيف يتنصل الكاتب محاولا تحريض جيوش المناعة أن تبني حصونها حوله كي يتخذ المنهجية الموائمة للتجدف الإيجابي دونما الانجذاب لدوامات النوافذ السلبية والمغربة نحو مستقبل آسن ؟
- بطبيعة الحال، أن التأثيرات والتجاذبات بين الأدب والواقع وما يحدث من صراعات سياسية وثقافية وحضارية أيضًا أمر وارد ومؤثر جدًا، نعم، ولكن نحن، يجب علينا أن نحذر فقط من خاصيتين، الخاصية الأولى هي أن النص الأدبي فضاء أدبي بالدرجة الأولى وفضاء لغوي ينبني على جماليات وعلى خصوصية أن يكون النص أدبًا وليس خطابًا سياسيًا أو ثقافيًا بالمعنى المباشر الخاصية الثانية هي أن النص أيضًا غير منفصل عن واقع نعيشه بمرارة وصعوبة لا يمكن للكاتب أن يظل بعيدًا عنه باسم الأدب.
سؤال، هل يمكن نحن اليوم أن نجد مساحة مشتركة للأدب والثقافة والسياسة والاقتصاد إلى غير ذلك من بقية المجالات الإنسانية؟ أنا أقول نعم، وعلى قدرات الكاتب أن تتجلى في إمكانية تحويل كل هذه القيم السياسية والمادية لقيم أدبية ولغوية تستطيع أن تؤثر في القارئ ولكن تؤثر أولًا من خلال الحكاية التي يفترضها الكاتب ومن خلال الجمل الأدبية المكتوبة لكي لا يشعر القارئ أنه أمام وثيقة سياسية لأننا إذا حولنا النص الأدبي إلى وثيقة سياسية فسنفقد الخاصية الأدبية وسنفقد الإسهام الذي يمكن أن يسهم بها الكاتب من خلال التنوير العام, كثير من النصوص كتبت عن هذه الثورات العربية، لكن كتبت عن ترديدات لما هو سياسي ولما هو «أيدلوجي» وبالتالي لم ترق إلى الخاصية الأدبية وعمرها محكوم بالظرفية بمعنى أنه عندما تنتهي هذه الظرفية ينتهي هذا الفعل التأثيري الأدبي, ولهذا عندما كتبت 2084 «حكاية العربي الأخير» كان في ذهني هذين المخاطرتين. كيف أكتب عن تاريخ عربي حاضر ومستقبلي بدون السقوط في لعبة الوثيقة السياسية أو الوثيقة الأيدلوجية اليقينية. بمعنى أنك تضع البشر في أفق الصراعات الإنسانية الأكثر عمقًا, كيف يمكن للأدب أن يلتقط اللحظة الأكثر نبضًا والأكثر حساسية في سياق هذا الدوران, هذا كان رهاني الكبير والأساسي وهذا بالفعل ما حدث, عندما كتبت الرواية كتبتها وأنا أحاول أن أنأى عن الخطاب السياسي المباشر. أعتقد أن مهمة الكاتب هي هذه المهمة المزدوجة، أن يظل في خضم الواقع والحاضر وفي خضم الواقع والزمن الذي يعيش فيه وبه العالم لأن ما يحدث في أي بلد ينعكس على المحيط الإنساني.
* قلت: الرواية ليست مضطرة لأن تعطينا دروسا في ظاهرة «داعش» التي تعمل على تدمير كل القيم الإنسانية ولكنها - أي الرواية -تستطيع إدخالنا بسهولة في حالة التفتت ونفسيات الناس الذين ساروا في هذا المسلك وتتحدث عن كيفية إفراغ الناس من إنسانيتهم أيها المحارب المناضل متى سيدعشن المبدعون الرواية وأن يلقون بقنابلهم التفكيكية والمعالجتية
إن لم يكن هذا قيامتها الكبرى المتمثل في التسفيح والترهيب من قبل هؤلاء الدواعش؟
يجب أن نعترف أننا هزمنا في الحداثة وكل مشاريعنا العربية فشلت!
- نحن نعيش زمنًا قاسيًا، وفي الحقيقة داعش ليست إلا مظهرًا من مظاهر الهزيمة الثقافية العربية ويجب أن نؤمن بذلك، ونؤمن بأننا هزمنا في الحداثة، الحداثة التي كان من المفترض أن تأتي بالعقل وأن تأتي بالتنور وأن تأتي بجيل من الناس يقطعون تماماً مع اليقينيات ومع ما هو مطلق ويذهبون نحو ما هو إنساني، للأسف كل هذه المظاهر الحداثية والتنويرية أخفقت. أخفقت في مسألة حرية المرأة وفي مسألة الديمقراطية، وأخفقت في مسألة التعددية الثقافية والدينية والعرقية والعمل على توحيدها في بوتقة إنسانية. لقد فشلنا تقريبًا في كل المشاريع العربية.
القاعدة وداعش «نزعة عدمية» خلقت زمن أسود؟!
على الرغم من أننا تتبعنا كل الموجات ولكن هذه الموجات لم تعط نتيجة؟! النتيجة الوحيدة التي خلفتها هذه التحولات أتت بالقاعدة! ثم بعد ذلك أتت بداعش! داعش في الحقيقة، هي كل نزعة عدمية، وهذه العدمية، للدكتاتوريات العربية دور فيها، لأنها حرمت المجتمع من التطور وحرمت المجتمع من التعددية، (شو راح يطلع معك) في النهاية تطلع «نزعة العدمية» العدمية التي جسدتها داعش التي تحاول أن تدعشن المجتمع العربي والإسلامي قاطبة, طبعا ًخليني أقول أن هناك محاولة دفاع، هناك رَدة فعل مجتمعية وثقافية عربية وفكرية وأيضًا إنسانية ضد هذه الحركات التي تدعو فقط إلى الموت، وكأن الإنسان وجد فقط لكي يموت ولكي ينتحر ولكي يلغي كل ما يجمعه بالحياة من جمال ومن ثقافة ومن تعددية ومن حب بين الناس، فخلقت زمنا أسود. كل هذا موجود ولكن أيضًا ثقافة المقاومة أنا أعتقد أنها موجودة، وهي ثقافة تكاد تكون طبيعية لأن الإنسان بطبعه هو أن يعيش الحياة وكل ما بها. أن تعطى لك الحياة هذا في الحقيقة كرم من الله، يعني أن نستفيد منها، أن نعيشها بالشكل الإنساني الذي يعمق إنسانيتنا، يعمق حبنا للغير وحبنا لأنفسنا طبعا ًهذا جزء وحبنا لعائلتنا هذا طبعًا جزء وحبنا لوطننا وأبناء وطننا هذا جزء. ولكن حبنا للإنسانية هو مفصل ضروري وأساسي أيضًا، وهذا التنظيم يضع الفواصل بيننا وبين الآخرين . أنا أعتقد أن الثورات تم تشويهها تماما ً. وصورة المسلم، من شوهها؟ شوهها هؤلاء الدواعش . للدواعش أيدلوجية يستندون إليها وهي هذه أيدلوجية العدمية, لذلك يجب أن تكون الحرب ضدهم ثلاثية الأبعاد الحرب العسكرية لأن المسألة فعلاً عسكرية بعد أن استولوا على بعض المناطق في البلدان العربية ويجب أن يزاحوا منها وهي حرب إنسانية ضد عملية التوحش لكن في الوقت نفسه علينا أيضا ًأن نخوض الحرب الأيدلوجية بمعني أن هذه العدمية يجب أن تعوض بثقافة إنسانية وهذا ثانيًا. كما أنه على المجتمع العربي أن ينتج هذه الثقافة الإنسانية الجميلة التي تجمع ما بين البشر, فإذا إنتاج ثقافة مسألة في غاية الأهمية. النقطة الثالثة يجب أن لا نتوقف عند حدود الشجب والرفض ..إلخ.
الفن ضد الدعشنة!
ولكن على الإنسان أن ينغمس في الدفاع. مثلا ًالدفاع عن الفن هو دفاع ضد الدعشنة والدفاع عن المرأة وحريتها وحقها في التعلم والسفر والحياة الطبيعية أيضا ًهو دفاع ضد الدعشنة والنضال من أجل أن يكون العالم مليئا ًبالألوان ليس على أسود وأبيض، أيضا ًهذا نضال ضد هؤلاء. لهذا أنا أقول أن هذه الرؤية الشمولية التي تسحب الخاص والعام في هذه الحرب المضادة ضد هؤلاء القتلة مهمة جدا وأنا أعتقد أن الزمن القادم سيكون قاسيا ًوربما سيفقد الكثير من الناس أرواحهم ولكن على الأقل إذا فقدت روحك هنا فهو دفاع عن الحق وهذا من أسمى التضحيات. والرواية تحديدا ًلها هذا الدور وأنا أعتقد أن ما نقرأه من روايات تنتصر للحياة وتنتصر للعدالة وتنتصر للحق الإنساني وتنتصر لحق الإنسان كإنسان لأن يكون حرا. هذا كله سيدعم النصوص أكثر وسيعطيها مجالاً للاستمرار ومجالا للمساهمة في التنوير. صحيح أن الرواية ليست سياسية لكنها لبنة من لبنات التنوير ولبنة من لبنات الحق ولبنة من لبنات الانتصار للحياة لصالح الحياة وليس لصالح القتل.
يقول الناقد باربريس «التاريخ كحكاية أو أقاويل أو قصة أو حكي أو سرد أدبي ما يقصه الأدب ويصوره النص وتقيمه مادة تشكيل أدبي تملك بعدها التاريخي «بهذا المعنى تنشأ العلاقة الجدلية بين التاريخ والرواية بحيث تتداخل كل منهما في لحمة الآخر وسداه
* وهذا التداخل يحمل الكاتب علو كاعبه وضلوعه تاريخيًا كي يسطيع اللعب بمهارة بالزج بالشخصيات وتفاعلها والمكنة الفنية التي يحيكها في سردوه إذا الوعي التاريخي والفني مرهون بمقدرة الكاتب على خلق التفاعل بين التاريخ والفن مستثمرًا التاريخ وفي ذات الوقت مبقيا على التماسكية الفنية استلهم الأعرج كثيرا من شخصياته من إرث تاريخنا العربي وهل يستطيع الكاتب الاستفادة من هذا الرافد وينجح في توظيفه رغم الارتباك الشديد بين جدلانية العلاقة؟
تاريخنا مخترق بلحظات ليست جميلة؟!
- لنا تاريخ عظيم مليء بالقيم الفنية والقيم الثقافية والحضارية, ولكن هذا التاريخ مخترق بلحظات ليست جميلة علينا أن نعيد قراءتها وتأملها, لدينا في التاريخ أبطال كبار يمكن أن يصلحوا لروايات عظيمة ولروايات مهمة, كل بلد عربي إلا وتجد فيه شخصية تاريخية مهمة يمكن أن نستعملها وأن نورثها للأجيال لأن وظيفة الأدب والرواية تحديدًا ليست فقط الوضع الأدبي - وهي أيضًا مسألة مركزية ومهمة - ولكن أيضًا من خلال النص الأدبي إثارة الحساسية الجمالية داخل أعماق الطفل أو داخل أعماق الشاب أو داخل أعماق الكهل أو الشيخ الذي يقرأ نصوصنا وتحريك حاسة الأمل الموجودة في أعماقنا ولكنها مدفونة تحت أكوام من الرمال و الرماد اليائس. ولهذا تأتي الرواية لكي تزيل هذا الرماد وتفتح أفاقا جديدة, عندما كتبت رواية «الأمير» كنت أفكر في هذا الموضوع وكان يهمني كثيرًا كيف أعطي صورة أخرى للأمير غير صورة المحارب التي يعرفها الناس ولكن أعطي صورة الإنسان لأننا نعيش اليوم في حالة يمكن أن نطلق عليها حالة البحث عن «أنسنة» الأشياء لأن الأشياء فقدت قيمتها الإنسانية. إذًا الرواية هي وسيلة ليست فقط لقراءة التاريخ ولكن لأنسنة اللحظة التي نعيشها من خلال المادة التاريخية فبرز الأمير في رواية كتاب «الأمير مسالك أبواب الحديد» كأنه شخصية غريبة لأنها تحمل قيما جديدة ربما لم تكن موجودة في وقتها لكن أنا قرأتها وحمّلت هذه الشخصية بمزيد من المشكلات الحضارية ولهذا عندما يقارن النقاد رواية الأمير بالرواية التاريخية أقول نعم إن هذا النص جزء من الرواية التاريخية ولكن في الوقت نفسه هو أيضًا، السؤال: إلى أي حد يمكن أن نجعل من التاريخ مادة حية للكتابة الروائية النصية؟ ولهذا يحتاج الأمر إلى اشتغال كبير وأن لا نستقر فقط على التاريخ الذي نتلقاه لأن الذي يكتب التاريخ هو المنتصر ويجب أن لا نبقى في حدود الصيغة التي فرضها علينا المنتصر.
الوجه الخفي للتاريخ
علينا أن نبحث أيضًا عن الوجه الخفي لهذا التاريخ الذي لم نره, بطبيعة الحال، ربما هذا قد لا يرضي الناس وقد لا يرضى بعض القراء وبعض النقاد وحتى بعض الحكام أحيانًا, ولكنه مهم لأنه يضعنا أمام السؤال المركزي هل نثق فقط في تاريخ الانتصارات ولا نبحث مثلًا في التاريخ العميق الذي يتكون من العنصرين, عنصر الهزيمة وعنصر الانتصار وقدرة الإنسان على الذهاب بعيدًا في قناعاته، في ثقافته، في وجوده، في جهوده ..إلخ . إذًا الرواية التاريخية ليست تاريخًا بكل تأكيد وليست إعادة إنتاج للتاريخ، هي بالدرجة الأولى نص أدبي ولكنه يستند على عناصر تاريخية يختبرها ليس فقط في المخبر التاريخي لأن المخبر التاريخي أحيانًا يكون عاجزًا عن توفيرها لأنه كما قلت - التاريخ يكتبه المنتصرون- ولكن يبحث عنها في المخبر الأدبي وفي المخبر الإنساني وقد يجد إجابات كثيرة تساعد النص على تحقيق أدبيته وتحقيق عنصر النوع أي النوع الأدبي التاريخي.
* في ثنايا التجويل في القراءة للأعرج نستشعر التوشيج الحميمي المطرد بالنفس الإنسانية جاهداً سبرانيتها والتوغلة المعجونة بتفاصيلها الملغزة المعتذر فك إحداثية شيفرتها هل نفتهم من هذا بتعميل التوكيد على أنه دواخل كل أحد منا قرينة أو شخص ما يحيا من خلالنا نداريه عن الآخر في محاولة يائسة منا القضاءَ عليه أو الاعتياش معه وفق تعاقد مرقوم ظهرانيه السلام وبطنويته الاصطراع؟ أو: نفتهم بأن ثمة دلالية للغة التعنية المأشورة في بعض رواياتك ملامح لسيرتك الذاتية؟
مسألة مركبة تركيبًا كبيرًا, لكل كاتب هاجس مركزي يتكرر في نصوصه، هذا الهاجس المركزي هو الذي يصنع مسارات النص الأدبية أنا أكتب عن المجتمع الذي عشت فيه أو المجتمعات التي مررت عليها لكن في الوقت نفسه أنا لا أنسى بأنني كبرت في مجتمع فقير, مجتمع فيه خوف كبير بسبب الحروب والآفات الاجتماعية.. الخ . هذه كلها عناصر تبقى مؤثرة في الإنسان حتى لو يبلغ عمره خمسين أو ستين أو سبعين سنة, تبقى كحالات مرجعية عندما نكتب، فنحن نعود لها وهذا ما أسميه «الهاجس المركزي» أو اللحظة الدائمة أو اللحظة التي تتحرك فينا بشكل دائم وتعيدنا إلى اللحظات الأولى, لا يوجد نص في العالم منفصل عن هذه الديمومة أو عن هذه اللحظة المتحركة, كل النصوص التي كتبتها فيها من هذه العناصر وهذا يتقاطع حتمًا مع بعض عناصر السيرة الذاتية, ولكن ليست وحدها السيرة الذاتية.
بقايا الحروب ما تزال عالقة في أعماق الناس
أنا كبرت في مكان معين وتلقيت ثقافة معينة وصادفت في حياتي شخصيات معينة لعبت دورًا في تكويني وهي التي أنسنتني وأعطتني تصورًا معينًا للحياة فسرت عليه, هذا كله موجود، لكن النص أيضًا ليس سيرة ذاتية بحته لكنه سلسلة من المعايشات المختلفة التي تلعب دورًا مهما في التكوين, أنت تتعرف على ذاك, تعيش في قرية، في محيط وفي نفس الوقت ترى أمك, وترى أيضًا ا الآخرين, وترى العلاقات التي تحكم القرية, وترى الصراعات وترى أيضًا بقايا الحرب التي ما تزال عالقة في أعماق الناس. من الصعب أن نتحدث عن سيرة ذاتية في هذه النصوص,لكن نستطيع أن نقول بأن عنصر السيرة الذاتية له دور مهم في الكتابة الروائية لكن هذا العنصر يلتصق بمسارات حياتية عامة هي التي تصنع النص الروائي وتعطيه المعنى وْتخرجه من ضيق الرؤية.
* لكي ينجح الروائي في عمله لابد له من أن يعيش حالة من الحب والامتزاج بينه وبين شخصياته ولا بد من لبوسها في أخيلاته ووجدانه بكل خطراتها وفكرها إلى أي مدى قد تعيش شخصيات واسيني وتتردد بين حناياه وهل تنتهي سطوة هذه الشخصيات عليه بعد فروغه من العمل وأخيرا هل ثمة شخصية قد تملكت الأعرج وتمكنت من البقاء في ذهنه فترة طويلة إن لم يكن قد هام بها واستطار إن صح التعبير ؟
الشخصيات السطحية لن تقنع القارئ
- عندما تكتب نصًا أدبيًا نحن نخلق عالمًا ونشيد عالمًا هذا العالم مكون من أمكنة مادية رمزية افتراضية ومكون أيضًا من شخصيات تتحرك داخل هذه المساحات إذا لم يكن لديك حب لشخصياتك فلن تستطيع أن تعطيها ما تملكه داخليًا, لا تستطيع أن تنشئ من خلالها نماذج بشرية تستطيع أن تقنع القارئ, هذا مهم وأساسي في الكتابة الأدبية. وإن لم تتوفر هذه الخاصية سنجد أنفسنا مخطئين بقوة ونحن نحتاج ضمنًا إلى أن نعطي لهذه الشخصيات كل ما نملك من طاقة وكل ما نملك من قدرات بنائية لأن الشخصية نحن نبنيها وليست جاهزة أو نستطيع أن نتلقاها بسهولة وإلا فستصبح شخصية سطحية.
شخصيات رواياتي تمثلني !
عندما أقرأ شخصية من الشخصيات علي أن أشعر أنها تمثلني أنا كإنسان موجود على حواف القرن الحادي والعشرين. عندما آخذ شخصية (دي لامانشا) أنا لا أشعر بأنها شخصية أدبية ولكن أشعر بأن هذه الشخصية خرجت من المدارات الأدبية والتصقت بي وهي تشبهني في همومي وفي ثقافتي وصراعي مع العصر الذي أعيشه
وعندما أقرأ شخصية (شهرزاد) أشعر أيضًا بأن هذه المرأة العظيمة تهمني, أولًا كامرأة مقاومة للبطش والغدر والقتل ولكن أيضًا هي امرأة تمثل الحياة بكل معناها، عندما تدافع شهرزاد فهي لا تدافع فقط عن حقها الشخصي في الحياة أمام طاغية اسمه «شهريار» ولكن هي تدافع عن بنات جنسها وعن حقهن بأن يكون لهن وجود في المجتمع وأن يعترف هذا المجتمع بحقوقهن وعندما آخذ (مدام بوفاري) في الرواية الفرنسية ل (فلوبير) أشعر بأن هذه المرأة ما تعانيه قد تعانيه أختي أو ربما تكون قد عانته واحدة من العائلة أو جارتي.. الخ ولهذا انتسابي إليها هو انتساب للشخصية الأدبية بكل تأكيد وانتساب لمحتوى هذه الشخصية الأدبية ذات الأهمية الكبيرة. لذلك عندما خلقت بعض الشخصيات كان بذهني الميراث الروائي العالمي بكل تأكيد ولكن أيضًا كان بذهني ميراثي الثقافي والمحلي والعائلي والذاتي أيضًا. الشخصية التي أثارتني كثيرًا هي شخصية مريم التي تكررت في الكثير من رواياتي، شخصية مريم منبعها هي خسارة عاطفية لكن في الجوهر أو في الكتابة الأدبية أصبحت مثل «الأيقونة» هي امرأة واحدة لكن امرأة واحدة لها أوجه كثيرة, أحيانًا أراها من الناحية النفسية, وأحيانًا أراها من الناحية الاجتماعية, وأحيانًا تشكل هدفا وجوديا كما تشكل حالة كيف يكون الإنسان في قمة عطائه وكيف يكون نورًا جميلًا, وكيف أن هذا النور يُطفأ بأيدي قاتلة خصوصًا في فترة الإرهاب. إذًا هذه الشخصية تتحول بتحول «التيمة» التي يشتغل عليها الموضوع, أعود فأقول بأن الشخصية ليست أمرًا
ثانويًا ولكنها علامة جوهرية هي التي تعطي للنص مداه ومحتواه الحقيقيين.