د. حمزة السالم
الحياة لا تخرج إلا من مخاض، والغيث لا يهطل إلا بعد العواصف، والبحر لولا التلاطم لفسد ماؤه وماتت أحياؤه، فبهذا يصفو ماؤه من زبده؛ فيخرج خيراته، ويُسقط غثاءه. وكذلك هو حال أثر تنوع الفكر واختلاف الشخصيات على نوعية القرار ومدى جودته.
ولكن هناك فرقاً كبيراً بين المظاهر الطبيعية للحياة (كالغيث والبحر)، والمجتمع الإنساني (كفرق العمل واللجان والمجالس).. فهما وإن كان كلاهما يتشارك في حتمية التنوع والتّضاد بين أفراد المنظومة الواحدة؛ من أجل استخراج الأفضل والأمثل، إلا أن مظاهر الحياة محكومة بقوانين ثابتة لا تتغير (فيزيائية وكيميائية ورياضية)، بينما المجتمعات الإنسانية محكومة بقوانين فطرية غير ثابتة ومتغيرة (كالتنافس والتّحاسد والتّباغض والمصالح والولاءات.
وتنوع التخصصات لا يعني تنوع الفكر، بل هو مجرد تنوع للعلوم. فاختلاف الشخصيات له أثر مهم على منع الموافقة التبعية؛ وبالتالي عدم تكوين العقل الجمعي في المجموعة بالتسليم لفكر صاحب الشخصية المهيمنة.
ومن سنة الله في خلق الناس أن أصحاب الفكر الواحد والشخصية المتشابهة يتآلف بعضهم مع بعض.. والعكس، هو كذلك من سنة الله. وهذا هو الفخ الذي تقع فيه المجتمعات الإنسانية المتخلفة.
فمجموعة العمل ذات الفكر الواحد والشخصية المتشابهة لا يمكنها الخروج برأي مُبدع خارج عن الصندوق. كما أن العثور على مجموعة متنوعة في فكرهم وفي شخصياتهم، مع استطاعة عملهم سويةً بتناغم يمكنه تحقيق النتائج الأمثل للقرار، هو أمر شبه مُتعسر ونادر.
ولو حصل فاجتمع المتناقضان في مجموعة عمل (أي اجتمع تنوع الفكر وتنوع الشخصية) فإن النتيجة تكون أحد أمرين: كلاهما لن يحقق النتيجة المثلى في التّضاد والاختلاف؛ فإما أن يغلب أحدهما الآخر، (أي يغلب فكر فرد أو شخصية فرد)؛ فيتكون عندها العقل الجمعي للمجموعة، فكأنها فرد واحد ذو علوم متنوعة.. وإما أن يتصادم أفراد المجموعة المتنوعة فكرياً والمتخالفة في الشخصية، والتّصادم هنا تصادم نزاع وفرقة، يُنتج الأسوأ لا الأمثل.
والسياسة الإدارية الناجحة هي التي تملك فن إدارة التنافس والتّحاسد والتّباغض والمصالح والولاءات التي تكون غالباً هي المحرك للتنازع بين أفراد فرق العمل (هذا على افتراض كفاءة أفراد مجموعة العمل).
وفن إدارة الحياة بشتى تطبيقاتها يتمثَّل أولاً في الاعتراف بسنن الله الكونية وعدم مصادمتها، أو اعتقاد أنه يمكن الخروج عنها.. فمتى تم الاعتراف جاءت الخطوة الثانية التي تتمثّل في التعامل مع سنن الله لتتناغم سويةً لتنتج أفضل ما فيها، لا لاعتماد واحدة دون أخرى، ولا إهمالها ليصادم بعضها بعضًا.
وفن إدارة التنافس والاختلاف يحرص على عدم الجمع بين مجموعة عمل مختلفة في فكرها وشخصياتها اختلافاً عظيماً، ولكنه يعمل على الاستفادة من هذا التنوع بأن يجعل هذا التنوع دافعاً لإخراج أفضل الأفضل، وذلك بتقسيمهم إلى مجموعتين منفصلتين.. مجموعة فرقة العمل، ومجموعة التحدي الفكري.
فالتناغم مهم في فرقة العمل، إلا أنه يُؤدي إلى توحد الفكر والخلود للاتكالية. وأما مع وجود التحدي الفكري مع اختلاف الشخصيات من جانب آخر فإن هذا يُخرج أفضل ما عند الفريقين، ويمنع الخطأ والفساد والاتفاق على تبادل المصالح، كما يخلق ثقافة قبول هذا التحدي والمطالبة به من فرق العمل ذاتها، كشرط لازم لتحقيق الأمثل والأفضل في القرار النهائي.