إشارة إلى مقال الكاتب حمود بن عبدالعزيز المزيني المعنون: (هذه البلدان موجودة منذ العصر الجاهلي).
قدم له بمقدمة قال فيها: «قيّد بعض المؤرخين المتأخرين كابن لعبون وابن عيسى تواريخ متأخرة لتأسيس بعض بلدان سدير دون الاستناد إلى مرجع، وقبل وجودهم بقرون عديدة! وقد يعزى ذلك إلى عدم اطلاعهم على كتب الأقدمين كالحفصي والهمداني والأصفهاني، لأنهم لو اطلعوا عليها لما قالوا بذلك. ومن جهة أخرى فإن كل أسرة أو قبيلة تتغلب على بلد من البلدان فإنها تحاول ما استطاعت طمس أي ذكر لمن سبقها وتمرر لمن بعدها أنها هي من أسست هذا البلد فيتناقل الناس ذلك فيصبح مع الزمن حقيقة متداولة لا يجرؤ أحد على تكذيبها».
ولما كان هذا الكلام فيه اتهام للمؤرخين المعتبرين في هذا الميدان بأنهم يكتبون من تلقاء أنفسهم ليحاولوا طمس تاريخ من سبقهم رأيت أن أعلق على هذا الكلام من خلال الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: وصف الكاتب بعض المؤرخين المعتبرين كابن لعبون وابن عيسى بأنهم وضعوا تواريخ متأخرة لتأسيس بعض بلدان سدير، والمطلع على تاريخ ابن لعبون وابن عيسى يدرك أنهم لم يذكروا كلمة (تأسيس) في تواريخهم.
فهذا ابن لعبون مثلاً يقول: «وكان نزول إبراهيم بن حسين بن مدلج المذكور بلد حرمه وعمارتها لها تقريباً سنة 770 هـ وعمارة بلد المجمعة سنة 820 هـ».
وبغض النظر عن خلاف المؤرخين في التاريخ المذكور، فإن ابن لعبون لم يذكر كلمة (التأسيس) وإنما ذكر (العمارة والنزول) والمقصود بالعمارة في اللغة هي عمارة الخراب ولزوم الساكن بيته. قال في اللسان: «عمرت الخراب أعمره عمارة فهو عامر أي معمور.. وعمر الرجل ماله وبيته يعمره عمارة وعموراً وعمراناً لزمه، ويقال لساكن الدار عامر».
ولو حُمل كلام ابن لعبون على أنه يقصد بالعمران التأسيس لصح هذا أيضاً، لانصراف الذهن في هذه الحالة إلى أن المقصود هو تأسيس تلك البلدان المعروفة الآن بكيانها الحالي وتاريخ بداية هذا الكيان والأحداث التي مرت به، وليس المقصود به هو تاريخ تلك الموارد وما بني عليها من المنازل التي درست وانتقلت.
الوقفة الثانية: ذكر الكاتب أن سبب ما وقع فيه بعض المؤرخين من أخطاء - في نظره - كان بسبب عدم اطلاعهم على كتب الأقدمين. والصحيح أنهم اطلعوا عليها وذكروها.
مثال ذلك قول ابن لعبون في تاريخه عن مدلج بن حسين ومن تبعه من بني وائل بعد خروجهم من أشيقر قال: «وحاصل الأمر إنهم استقروا في التويم بعد سكان له قد درسوا يقال إنهم من عايذ ويقال من عرينة ويقال من غيرهم ما حققنا أمره الأول وإلا فهو بلد قديم قد ذكره صاحب القاموس وذكره السيوطي عند الحمداني كما مر فإنه قال لما ذكر عايذ بن سعيد قال ومنازلهم حرمة وجلاجل والتويم ووادي القرى وهو المسمى سدير».
الوقفة الثالثة: علل الكاتب تهمته لابن لعبون وغيره من المؤرخين بأن «كل أسرة أو قبيلة تتغلب على بلد من البلدان فإنها تحاول ما استطاعت طمس أي ذكر لمن سبقها». وأقول هذا التعميم لا ينطبق على ابن لعبون، والدليل على ذلك قول ابن لعبون في تاريخه: «وأما إبرهيم بن حسين فإنه ارتحل في حياة أبيه إلى موضع بلد حرمة المعروفة وهي مياه وآثار منازل قد تعطلت من منازل بني سعيد من عايذ ونزلها إبراهيم المذكور وعمرها وغرسها». فهذا النص صريح يرد هذه التهمة ومثله النص الذي سبق في الوقفة الثانية، فأين طمس التاريخ هنا؟ لقد ذكر أن موضع حرمة كان مياهاً وآثار منازل قد تعطلت، بل ذكر من كان ساكناً فيها قبل ذلك من قبائل العرب ولم يحاول ما استطاع طمس ذكر من سبق على حد تعبير الكاتب رغم أن المقام مقام حديث عن بعض الأسر وأنسابها ومنازلهم، وليس مقام حديث عن المواضع والموارد.
ثم إن حديث ابن لعبون هنا في تاريخه ليس حديث أسرة تغلبت على أسر كما يذكر الكاتب وإنما حديث مؤرخ معروف شهد له الأكاديمون المعاصرون بأنه يكتب التاريخ لأجل التاريخ.
الوقفة الرابعة: ذكر الكاتب أن بعض المؤرخين المتأخرين كابن لعبون وابن عيسى وضعوا تواريخ متأخرة دون الاستناد إلى مرجع.
والصحيح أن ابن لعبون لم يقل شيئاً من قبل نفسه والدليل قوله: «وقد ذكروا لنا آل شبانة حمد بن عثمان وأخوه محمد أنهم حرروا عمن قبلهم نقلاً نزول إبراهيم بن حسين حرمة في آخر القرن التاسع تقريباً نحو السبعين وثمانمائة وظهور المجمعة بعد نزول إبراهيم بخمسين سنة».
ثم ذكر في آخر النبذة التي وردت فيها تلك التواريخ أن مصادره في ذلك أقسام:
الأول: في ذكر الأنساب القديمة المدونة في الكتب وذكر منها مختصر الجمهرة لابن الكلبي ومعجم البلدان لأبي عبيد الهروي وقلائد الجمان في ذكر قبائل الزمان لأبي الفضل السيوطي ونهاية الأرب للقلقشندي وتاريخه الذهبي وابن الجوزي.
والقسم الثاني: ما تلقاه بالاستفاضة وتسلسل القبائل وبيوتهم ومنازلهم.
فهو يأخذ بالاستفاضة وينقل عمن سبقه ولا يأتي بشيء من قبل نفسه كما هي عادة بعض الكتاب المتأخرين الذين يعتمدون على الاستنتاجات إذا لم يجدوا الوثائق التاريخية أو لم يطلعوا عليها.
الوقفة الأخيرة: أن الله تعالى قال: {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. فهذه المواضع من الأرض يسكنها أناس ثم يرثها غيرهم وكل أمة تؤرخ لنزولها وعمرانها، ولذا نجد كثيراً من البلدان قامت على أنقاض بلدان أخرى. ولو أراد باحث أن يستقصي تاريخ موضع في الأرض منذ بدء الخليقة لما استطاع.
ويغلب على كثير من قرى هذه الجزيرة أنها كانت موارد ترد عليها البوادي، ومع توالي العصور قامت عليها هذه القرى، ثم أصبحت مدناً كبيرة يروى لها تاريخ حافل منذُ قيامها إلى وقتها الحاضر في عهد هذه الدولة الزاهر أدام الله عزها.
- عبدالمحسن بن إبراهيم اللعبون