المفكر والأديب والوزير الراحل غازي القصيبي لم يكن شخصيّة على هامش تاريخ مجتمعنا الحديث، بل كان أيقونة تجسد في مواقفها الجريئة روح العصر والرغبة في بناء مفاهيم جديدة في واقع حافل بالنماذج الفكريّة الرافضة لمبدأ التغيير انطلاقًا من فكرة التوجس من مشاريع التغريب وهدم قيم المجتمع المحافظ، ومعظم تمثّلات ذلك التيار اتسمت بالإقصاء والعنف اللفظي بوصفهما سلاحين للردع ومواجهة أي محاولة تسعى لتجاوز الركود المعرفي وإحداث ثورة مفاهيمية تعيد تقييم المنجز التراثي، وتحديدًا ذاك المنجز المتعارض مع أسس الدولة الحديثة وضروراتها المتمثلة في قبول مبادئ التعددية الثقافية والتحاور مع المختلف وترسيخ مفهوم الولاء للوطن.
لم يكن القصيبي صداميًا في أطروحاته الفكريّة، إذ تبدو آراؤه مراعية لحالة التوجّس داخل المجتمع والتي أسست لها بعض التيارات المتشددة آنذاك، فعندما سُئل عن مفهوم «الحداثة»، أجاب بأنه من المفاهيم الملتبسة، ونحن لسنا أمام حداثة واحدة، بل حداثات متعددة، ليطرح بدلاً عنه مصطلح «المعاصرة»، وهو اختيار ذكي؛ لأن المعاصرة لم تحمل مدلولات سلبيّة كحال الحداثة التي شوّهت وأخذت معاني التغريب والعلمنة كما يظهر في مؤلّف عوض القرني «الحداثة في ميزان الإسلام».
وأزال القصيبي الالتباس عن مفهوم الحداثة وتعدد تشكلاته الفكريّة والفنيّة، برفضه لمشروع «أدونيس» الحداثي الذي وصفه بأنه مشروع مناهضة للإسلام، ويتجلّى ذلك في كتاب المفكر السوري «الثابت والمتغيّر» المؤسس لنظريّة تسعى إلى تقويض التراث الديني واللغوي، إلا أن القصيبي استدركَ بالإشارة إلى أن حداثة أدونيس ليست هي حداثة عدد كبير من الشعراء والفنانين والمفكرين السعوديين، ومن الظلم الحكم على حداثتهم انطلاقًا من تصورات أدونيس التي تعنيه وحده ولا تعنيهم.
ورغم موقف القصيبي المتسامح مع الآخر، والمبتعد عن الاتجاه الصدامي ضد التيارات الفكريّة المختلفة معه، إلا أنه لم يحضَ بمبدأ التعامل بالمثل، بل شنّ رموز الاتجاهات المتشددة هجومًا شرسًا عليه، بلغت بعضها حدّ تكفيره وتخوينه ووصمه بالعمالة، ومع أن له علاقات وثيقة بالسلطة، إلا أنه لم يؤلب الجهات العليا ضدهم، واختار أن يُنجز كتابًا للرد على الشبهات التي طالته منهم، وحينها ألّف كتابه الشهير «حتى لا تكون فتنة»، ليؤسس به أنموذجًا رفيعًا للتحاور والنقاش الهادئ والعقلاني بعيدًا عن تراشق الاتهامات، وأخذ يفنّد حجج المناوئين له بالأدلة الشرعية والمنطقية، رافضًا وصفهم له بالعلمانيّة، والتي تفضي إلى تكفير من يؤمن بها، مشددًا على أنه إنسان مسلم ولم يختر غير الإسلام دينًا.
تجربة القصيبي تكشف عن أزمة لدى التيارات المتشدّدة ضد الآخر المختلف، وانطلاقهم من مبدأ التصنيف الإقصائي المتأسس على ثنائية (نحن/هم)، ذاك المبدأ الرافض لثقافة الاختلاف حرم المجتمع مع إمكانات التطوّر والتقدم المعرفي، وجعله معزولاً عن العالم الخارجي ومنجزاته التكنولوجيّة الحديثة، وبات مجتمعًا مستقبلاً ومستهلكاً وعاجزًا عن بناء منظومة فكريّة تحفز على الإبداع واستلهام روح العصر والمضي قدمًا في إثراء التجربة الإنسانية بوصفها تجربة مشتركة ومتعالية على أي اختلاف مهما كان نوعه وعمق أثره.
ياسر صالح البهيجان - ماجستير في النقد والنظرية