تقديم المترجم: هنا دراسة مشتركة للبروفيسور يورام ميتال والباحث موشيه ألبو نشرت عام 2014، قسم دراسات الشرق الأوسط، جامعة بن غوريون في النقب. وستشكل هذه الدراسة أحد فصول كتاب مترجم بعنوان «الأزهر والسياسة» (تحت الإعداد) أخطط لصدوره في عام 2018 بحول الله:
وفي فتوى بعنوان «في حكم الدولة المسلمة التي لا تحكم بالقرآن وحكم الشعب التابع لتلك الحكومة»، ورد:
«والواقع أن الدول الإسلامية في الفترة الماضية كانت مكبلة بأغلال الاستعمار، وكان أهلها مغلوبين على أنفسهم لا يملكون من أمرهم قليلاً ولا كثيراً، فرض عليهم الاستعمار قوانين لا تمت إلى دينهم بصلة، وفرض عليهم نظماً اجتماعية غريبة على جوهم الروحي، فلم يتمكنوا من أجل ذلك من التشريع لأنفسهم؛ ولكن الأمم الإسلامية الآن والحمد لله قد نفضت رجس الاستعمار عن كاهلها وأصبحت تحكم نفسها بنفسها. ومن أجل ذلك، بدأ المصلحون فيها ينادون بالرجوع إلى جوهم الروحي وبيئتهم الدينية. إن الأصوات تتعالى بالنداء إلى تشريع قوانين نابعة من الشرق ومن العروبة ومن الإسلام. إن رجال الإصلاح الآن، وفيهم كثير من رجال الحكم، ينادون باتخاذ الدستور القائم على قواعد من الأخلاق الدينية. وبدأت الحكومات تستعد للسير في هذا الاتجاه، والله نرجو أن يكتب لها التوفيق، وأن يهيئ لها جوًّا من الاستقرار تعمل فيه على إعادة الإسلام والمسلمين». انتهى كلام محمود. (26)
إن حقيقة كون هذه الفتوى كتبت قبيل التصديق على الدستور المصري الجديد (11 سبتمبر 1971) تفسر لهجتها المتفائلة؛ ولكن ثقة محمود في تحقيق رؤيته الإسلامية تآكلت تدريجيا، وحل محلها في نهاية المطاف نقد صريح للنظام ورئيسه لعجزهم عن القيام بواجبهم الإسلامي لتحقيق الرؤية الإسلامية في الواقع الفعلي. وجادل الشيخ محمود بأن على حراس العقيدة الإسلامية، أي العلماء، أن يطالبوا الحكومة بأن تحكم وفقاً لمبادئ الشريعة وبأن تطبق برامج إسلامية في جميع المجالات. وشجب محمود المقولة التي تزعم بأن الشريعة الإسلامية لا تصلح للعصر الحديث، وجادل بأن هذه العقلية تنبع من منظور استعماري يهدف إلى إضعاف المجتمع المسلم. وأكد أن الديمقراطية الغربية تعزز القيم الفردية وتهمش الروابط الروحية بين البشر وبين الله. ولذلك، فإن إدراج المفاهيم الغربية في النظم السياسية والقانونية الإسلامية سيؤدي، في نهاية المطاف، إلى تمكين القيم الفردية والمادية؛ وهو ما يؤدي إلى بزوغ سلوكيات مادية واستغلالية. ووفقاً لمحمود، فإن هذه التطورات ستؤدي إلى جفوة اجتماعية وإبعاد المصريين عن الأخلاق الإسلامية التي تدعو بطبيعتها إلى نظام يقوم على العدالة والمساواة والأخلاق. (27)
مجلس الشعب يشرع لكازينوهات القمار والخمور
ومحمود يرد بسلسلة فتاوى تطالب بتطبيق فوري للشريعة
ولكن الواقع السياسي للسبعينيات كان بعيدا عن المثال الإسلامي الذي يطمح إليه الشيخ؛ فأعضاء البرلمان كانوا يسنون قوانين علمانية، بما في ذلك تقنين كازينوهات القمار وكذلك بيع الخمور، وهي ممارسات يصنفها محمود تحت بند التابوهات (المحرمات) الدينية. وناشد محمود وشخصيات عامة محافظة الحكومة والبرلمان أن يمارسا سلطتهما الشرعية لفرض تطبيق الشريعة الإسلامية، وكذلك منع تسلل الأعراف العلمانية إلى المجتمع. (28) وخلال النصف الثاني من السبعينيات، أصبحت الفتاوى أدوات فعالة للضغط العلني للمطالبة بتطبيق فوري للشريعة الإسلامية. وكانت معظم تلك الآراء الإسلامية القانونية قد صدرت مباشرة من مكتب الشيخ محمود. وفي فتوى طويلة بشكل غير معتاد، تحدى شيخ الأزهر علنا الرئيس والحزب الحاكم عندما وَضَّحَ الفجوة الهائلة بين الشعارات السياسية للقيادة (دولة العلم والإيمان، الرئيس المؤمن.. إلخ) وبين الواقع الاجتماعي والقانوني. وبشكل أكثر تحديدا، زعم محمود أنه بالرغم من رفع راية الإيمان في الخطابين السياسي والعام، فإن الحكومة لم تبذل مطلقاً أي جهد لمناصرة هذه القضية. كما أكد الإمام الأكبر أن معظم النواب كانوا على استعداد للمصادقة على مشاريع قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية. وقد اتضح هذا الأمر خلال مداولات اللجان البرلمانية حول إمكانية اعتماد نظام العقوبات الإسلامية (الحدود)، ولكن القانون المقترح لم يتعد مرحلة المزايدة الخطابية. (29) ونسب محمود هذه المماطلة التشريعية إلى سنوات الحكم الاستعماري التي تركت أثرا سلبياً عميقا على المؤسستين السياسية والقانونية في مصر. فقد بذلت الحكومة الاستعمارية، التي سادت لأكثر من 100 سنة، جهداً واعياً، في تقدير الشيخ، لطمس السمات الإسلامية من المجالات السياسية والقانونية. واستبدل السادة الغربيون الشريعة بالقانون الأوروبي وأسسوا بيروقراطية معقدة لغرض جعل السكان المحليين يعتمدون على قوة أجنبية. أك ثر من ذلك، هيمن القانون الأوروبي على مناهج كليات الحقوق المصرية؛ وهو ما جعل أجيالا من المحامين والفقهاء القانونيين المصريين يجهلون الشريعة الإسلامية تماماً. وعملياً، إذن، حل النظام القانوني الأوروبي محل نظيره الإسلامي. واستمر هذا الوضع الراهن لعقود، يضيف الإمام محمود، حتى وصل الأمر إلى وضع أصبح فيه النظام الأجنبي وكأنه نظام البلد الأصلي. وحتى بعد جلاء البريطانيين، بقي القانون الأوروبيفي البلد، وكما قال محمود: «إن النظام الذي تسير عليه كليات الحقوق هو نفس النظام الذي فرضه الاستعمار، وقد زال هذا الاستعمار فكان على هذه الكليات وهي مشهورة بالتحرر أن تتحرر من آثار الاستعمار، وأن تعيد النظر في مناهجها وبرامجها، التي تعلن أن الاستعمار باق يتحدى في زاوية من أخطر زوايا المجتمع وهي زاوية القضاء والعدالة». انتهى كلام محمود. (30)
يتبع
حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com