للإنسان علاقة وثيقة مع الأرض التي ينتمي إليها؛ إذ إن هذه العلاقة لا تنفصل عنه ما دام على قيد الحياة؛ لأن هذه العلاقة روحية، تزيد مع تقدم العمر، حتى يصل الكثير من الأشخاص إلى أن يوصي أهله بأن يدفن في أرض وطنه في حالة توفاه الله خارج حدوده؛ لأنه يخاف من وحشة الموت بعيدًا عن تراب الوطن. هذه المحبة ليس لها علاقة بغنى الأرض أو فقرها؛ فهناك من هاجر من بلاده إلى بلاد أكثر تحضرًا وتطورًا، ولكن مرارة الحنين لوطنه تكاد لا تفارقه، ويمكن تشبيه ذلك بحنين الابن لأمه. بل هناك حالات كثيرة لأشخاص وُلدوا خارج أوطانهم، ومع ذلك لم ينسوه أبدًا، ويتمنون لو أنهم يعودون إليه يومًا ما، ويقدم الكثير منهم الدعم له سواء دعمًا ماليًّا أو معنويًّا أو أي وسيلة من وسائل الدعم. هناك عاطفة تربط الإنسان بأرض وطنه، ولا يشعر بذلك الشعور إلا من كان بعيدًا عنه. ومن هنا نذكر هجرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - عندما هاجر من مكة إلى المدينة، وكيف كان شعوره وحزنه وألم الفراق في داخله، وقد قال كلمته الشهيرة: «لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت». وقد كان كثير السؤال عنها، ويسأل عن أحوالها وأحوال أهلها من كل من جاء منها. الرابط المهم في العلاقة بين الإنسان وأرضه يتجلى في الدفاع عنه حتى وإن كانت الإمكانات الدفاعية متواضعة، وكم سمعنا من دول صغيرة استطاعت هزيمة دول عظمى، مثل هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية من فيتنام، ووقوعها تحت تأثير السلاح الذي لم يكن بالحسبان، والذي كان بحوزة الفيتناميين، ألا وهو حب الوطن في نفوسهم. ومثل تفكك الاتحاد السوفييتي وانهياره وهو في عز مجده بسبب دويلات صغيرة فقيرة، لا تشكل جزءًا مهمًّا في قوة الاتحاد العظمى.
وفي التاريخ أيضاً كيف تخلصت الدول التي استعمرت من مستعمريهم، وقد جاء هذا التخلص والانتصار بعد تكاتف الأهالي ومواجهتهم بسلاح الروح وحب الوطن. وقد تصل هذه العلاقة بين الإنسان وأرضه إلى مرحلة متقدمة، أي مرحلة العشق، التي تسمى أحيانًا بالولاء. وكم من شاعر وكاتب تغزل وكتب عن وطنه، وقد اعترف بعضهم بوصوله إلى مرحلة البكاء عليه! لأننا عندما نبتعد عن أوطاننا يكاد لا يمر يوم إلا والشوق والحنين في العودة إليه متلازمان في أذهاننا حتى وإن كان الابتعاد مؤقتًا، مثل السياحة أو الدراسة أو نحوهما.. لذلك مهما حاول المفكرون والإعلاميون الذين يتولون مهمات نزع حب الأوطان من نفوس أبنائه فلن يستطيعوا، وسيعجزون في ذلك مهما ذكروا من سلبيات ومشاكل؛ لأن المهمة شبه مستحيلة إن لم تكن مستحيلة، وربما فطرة حب الوطن مخلوقة في روح الإنسان ونحن لا نعلم، فلله في خلقه شؤون؛ لأن الإنسان ابن للأرض التي ينتمي إليها قبل أن يكون ابنًا لأبيه وأمه؛ فهو جزء منها، وهي التي سوف تحتضنه بعد موته.