بداية أود القول أني أطلعت على كتاب وثائقي قيّم في التاريخ، يسرني أن أجمل أبرز ما جاء فيه وقراءة أولية لما تضمنته مذكرات تركي الماضي أحد رجال الملك عبدالعزيز المخلصين، حيث بدأ حياته كاتباً للأمير عبدالله بن عسكر في أبها عام 1343هـ ثم سفيراً غير رسمي يحمل رسائل الملك عبدالعزيز آل سعود إلى الإمام يحيى بن حميد الدين إمام اليمن، ثم بعد ذلك عين وكيلاً للمالية في منطقة عسير وما والاها من نواحي القنفذة، ثم أميراً لبلاد غامد وزهران بعدما أسست أول إمارة في ديارهم وقد سميت إمارة الظفير (الباحة حالياً) بعدها انتقل ابن ماضي أميراً لمنطقة نجران وأخيراً جاء تعيينه أميراً لأبها واستمر في منطقة عسير حتى وفاته -رحمه الله- وقد دوّنت نتائج ما لاحظته وقرأته في عدد من النقاط الإيجابية، فبعد اطلاعي على محتوى الكتاب وجدته زاخراً بمعلومات قيمه ووثائق نادرة لم يسبق لها النشر، وقد استهل من قاموا على ترتيب وطباعة هذا الكتاب اختيار عنوان له اسموه مذكرات، ثم قسّم الكتاب إلى أربعة أبواب تخلل كل باب منها عدد من الرسائل والبرقيات المتبادلة بين الإمام المؤسس وبعض أعضاء حكومته وبين الإمام يحيى حميد الدين حاكم اليمن، والذي يشاهد الكتاب للوهلة الأولى يظنه يصف حياة الأمير تركي الماضي فقط، وفي الحقيقة أن جميع ما دوّن لا يمثّل الرجل فحسب وإنما يروي صفحات من تلك الحقبة التي عاش فيها تركي بن ماضي وزمن عبدالعزيز بن عبدالرحمن ورجاله المخلصين، ويصور الفترة الانتقالية والحقبة الزمنية الصعبة التي مرت بها المنطقة السعودية اليمنية في أربعينيات القرن الماضي، ومما لاحظته أن صاحب هذه المذكرات بدأ الحياة السياسية منذُ نعومة أظفاره، والفضل في ذلك يعود لأمير أبها عبدالله بن عسكر حينما وقع اختياره عليه وطلب من والده في المجمعة عاصمة سدير من بلاد نجد، قلت طلب منه الموافقة لمرافقة الأمير إلى أبها كاتباً له في أول شأنه، ثم بعد ذلك وكيلاً للمالية ثم أميراً على أجزاء متفرِّقة من جنوبي البلاد السعودية وفي هذا الكتاب عدد لا بأس به من الرسائل والوثائق التي ربما يستفيد منها الباحثون، «وابن ماضي» (كما يسميه أهالي الجنوب) ومن خلال المناصب والمهمات التي تولاها يعد رجلاً جاداً في عمله وأحد رجالات الملك عبدالعزيز النجباء الأفذاذ الذي إن كلّف بمهمة ينجزها على الوجه المطلوب، ولاحظت في هذه المذكرات أمراً مهماً يجب التوقف عنده هو أن البقيات المدرجة في الكتاب التي كان يبعث بها الملك عبدالعزيز إلى إمام اليمن يحيى حميد الدين، كانت تتسم بالذكاء السياسي في أسلوبها، حيث لا يناقش الإمام في المسألة اليمنية السعودية فقط وإنما يعقد لقاءً سرياً بين تركي الماضي مبعوث المؤسس وإمام اليمن ومناقشة قضايا عربية معاصرة واتخاذ رأي مشترك حولها وعلى سبيل المثال قضية سوريا وقضية الشريف في الحجاز وقضية العراق والنقاش حول الوحدة العربية ومدى جدية الأطراف في ذلك، وما أريد قوله إنها لم تكن دائماً تتصف بطابع الرسمية، بل كان يتخللها السؤال عن الأحوال الخاصة والعامة وأحوال الأسرة وهذا في رأيي لباقة من الملك الراحل عبدالعزيز في مخاطبة أصدقائه وخصومه في آن واحد، ومما يلفت الانتباه بتلك البرقيات اللغة الجميلة الراقية التي كتبت بها والطريقة المهذبة التي كان يخاطب بها الإمام الراحل عبدالعزيز حلفاءه والأسلوب الرائع الذي قربهم إليه أكثر، وأنوه هنا إلى أن الفضل في خروج هذه المذكرات يعود بعد الله عزَّ وجلَّ إلى الملك سلمان بن عبدالعزيز حين كان أميراً للرياض؛ ذلك أنه باطلاعه الواسع على تاريخ البلاد السعودية وغيرها وتاريخ الأسر، طلب من أسرة تركي الماضي أن يخرجوا ما لديهم عن والدهم من وثائق ومذكراته التي كتبها - رحمه الله - بخط يده فيقوم هو شخصياً بدعمها مادياً على نفقته كي يخرج هذا العلم إلى الناس، فأثار ذلك في أسرته العزم وجمعوا ما توافر لديهم من أوراق والدهم وطبعت في كتاب.
وابن ماضي أحد الرجال القلائل المطلعين على تاريخ المنطقة الجنوبية وقبائلها بسبب مكوثه بها مدة طويلة من حياته ولتنقلاته أميراً ثم وكيلاً للمالية في كثير من النواحي الجنوبية من هذه البلاد، وقد تحدث عن القرى هناك حديث العارف بها وبأهلها، والشيء الجميل في هذه المذكرات أن صاحبها كان دقيقاً في وصف رحلاته وتنقلاته وذلك أكسب كتابه مصداقية أكثر، والكتاب يحوي رسائل مهمة تتضمن بعض القصائد النادرة للأئمة في اليمن ربما لولا صاحب المذكرات لما تم العثور عليها، أما البرقيات الموجودة في الباب الثاني فهي تكشف للباحثين المهتمين بهذا الشأن تاريخ الإمامة في اليمن وما تخللها من مناوشات بين الفريقين ثم بعد ذلك الاتفاق على ترسيم الحدود بينهما، وأخيراً قد لاحظت أثناء لقائي ببعض المعاصرين لتركي الماضي أن الرجل أحد القلائل في شخصيته ممن يتمتعون بالحزم وحساب كل الأمور حتى إن المعمرين في المنطقة الجنوبية المعاصرين لإمارة ابن ماضي يتمثّلون بابن ماضي في الشدة والحزم في الحق وفي بعض قصائد الرجز لديهم يذكرون ذلك، والسبب في رأيي يعود لتطبيق بعض الحدود في زمنه كقطع يد السارق مثلاً وكان ذلك لأول مرة في إحدى المناطق التي كان أميراً لها ولم يكن يقبل شفاعة أياً كان، حتى أستتب الأمن بشكل كبير في تلك الأنحاء بسبب أن تركي بن ماضي كان حازماً - رحمه الله.
** ** **
- عبد الهادي بن مجنّي
bnmgni@hotmail.com