«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
قبل أربعة عقود كنت في باريس، وأقمت في فندق بسيط بجوار برج إيفل حسب إمكانياتي المادية، ولن أذكر اسمه هنا حتى لا يُقال إنني أعمل دعاية له، لكنه والحق يقال جعلني أتردد عليه كلما زرت باريس واكتشفت مع الأيام أن صاحبه يهودي كان من اليهود الفرنسيين الذين عادوا إلى فرنسا بعد الاستقلال واستثمر أمواله في هذا الفندق الصغير والذي يديره مع أفراد أسرته كعادة العديد من الأسر الفرنسية وحتى الأوربية، فالعائلات والأسر هي التي تقوم بإدارة العمل في الفنادق والموتيلات.. وحتى المقاهي الصغيرة والكافيتريات مع الاستعانة بطلبة الجامعات من الفرنسيين والمهاجرين..وعادة ما يقدم الفندق الذي أقيم فيه وجبة فطور صباحية مجانية من أهم عناصرها الخبز الفرنسي (كروسان) وبصراحة رغم أنني ولله الحمد ابن خير، وعيني كما يُقال «مليانة» لكنني لم أتردد أن أطلب من ابنة صاحب الفندق «هيلين» والتي عملها يبدأ مبكراً في الصباح حتى بعد الظهر لتغادر إلى الكلية التي تدرس فيها: أن تزوّدني بمزيد من الخبز، كان لذيذاً والأهم أنه يفتح شهيتك لتأكل أكثر، بل يكاد يردد بينه وبينك هل تريد المزيد؟! ولم أتردد يومها أن أسأل أبا «هيلين» وكان يجيد العربية بحكم أنه كان من مواليد الجزائر عن هذا الخبز الشهي «كروسان» وعن معنى اسمه فقال لي وهو يبتسم هذا الخبز وغيره من المخبوزات التي اشتهرت بها فرنسا على مر العصور تعتمد على خلطة سرية.
لكن «خبز» الكروسان» وأصله ما زال موضع اختلاف فهناك من يعتبر أصله بلجيكيا، وهناك من يؤكد أنه فرنسي واسمه يعني (الهلال) وتم ابتكاره احتفالاً بهزيمة قوات الأمويين من قبل الجيوش الفرنسية في موقعة «بلاط الشهداء عام 732م كونه يمثّل شكل الهلال، وهناك من يشير إلى فرحة القوات البولندية بانتصارها عى القوات العثمانية عام 1683م خلال حصار فيينا والإشارة إلى الهلال العثماني، ونجاح هذا الخبز «الروسان» صارت العديد من الدول الأوربية تحاول أن تؤكد انتماءه لتاريخ مطبخها وإنها صاحبة الفضل في انتشار هذا الخبز على مستوى العالم.
وكل صباح وفي العديد من الدول يتناول مئات الملايين من البشر خلال إفطار الصباح «الكروسان»، بل حتى في وجبات الغداء والعشاء، أو بين الوجبات كفطيرة أو تصبيرة، كما شاع في دعاية بعض المخابز في بلادنا، وبالمناسبة هناك غزو داخلي «كروساني» عجيب، فسبحان الله باتت مختلف المخابز في المملكة تنتج أنواعاً مختلفة من «الكروسان» اللذيذ لكنه لا يشبه أبدا «الكروسان» الفرنسي الهلالي الشكل إضافة فهو يتميز بخلطته السرية، وتتبيلته الخفية التي تعتبر سراً من أسرار كل بيت فرنسي أو حتى أوربي، ولو رصد المختصون مقدار العائد المادي الذي يحققه خبز أو فطيرة «الكروسان» لمنتجيه من أصحاب المخابز، فلا شك أنه يدخل في خانة المليارات من الدولارات يومياً على مستوى العالم، وقبل أن أعد هذه الإطلالة سألت المشرف على مركز تموين شهير بالمبرز عن الكمية التي يبيعها من هذا الخبز. فقال: يختلف العدد من شركة وأخرى، لكن المبيعات بشكل عام تتجاوز من 300 إلى 600 فطيرة، ومن بينها بالطبع فطيرة «الكروسان» فلنتصور بعد هذا حجم مبيعات هذا الخبز على مستوى المملكة والعالم.. اللهم لا حسد..؟!