عبد الاله بن سعود السعدون
العلاقات التركية الأوروبية تميزت بالحالات المتغيرة الزئبقية، فقد مضى أكثر من نصف قرن على إعلان تركيا عن رغبتها في الانضمام للاتحاد الأوروبي وتأتي الإجابة الأوروبية دائمًا الدراسة والبحث لأفضل المناخات الملائمة لفتح بوابة البيت الأوروبي للمشارك الجديد الذي يتطلب من تطبيق مطالب أوروبية تعيد حالته الدستورية وتوازن العلاقة بين نسيجه الاجتماعي المتنوع القوميات والأعراق حتى أصبح الهاجس الأوروبي عاملاً مشتركًا في مسببات كل الأحداث السياسية التي عاشتها تركيا منذ أول يوم تسلم طلبها للمشاركة في الاتحاد الأوروبي وهناك دول عديدة لا تقارن أهميتها المحورية بمكانة تركيا إقليميًا ودوليًا تم قبول انضمامها بفترة قياسية ومع انعقاد أي جلسة دورية لمجلس أمناء الاتحاد مثل لتوانيا ولاتفيا وكرواتيا وبروسيا البيضاء والمجر ومالطا حتى بلغ عددها ثماني وعشرين دولة وتركيا مطلوب منها إجراء لأكثر من مائة تصحيح دستوري في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتوازن العرقي والديني وغيرها من العصي التعجيزية في العربة التي تقودها نحو البوابة الأوروبية وبدون تأشيرة دخول!
الاستفتاء الشعبي الذي فرضه الدستور التركي لإجراء التغيير في نظام الحكم من البرلماني إلى الرئاسي الذي تبناه حزب العدالة والتنمية مدعومًا من أحد أحزاب المعارضة (حزب الحركة الوطنية) ويهدف هذا التغيير الدستوري لجعل قمة السلطة بيد رئيس الجمهورية وهو الذي يختار وزراءه ومساعديه من خارج البرلمان ولا يحتاج إلا منحهم الثقة عن طريق التصويت الجزئي لكل وزير حسب نوع مهماته ويلغى منصب رئيس الوزراء وهو شكل لنظام تركي جديد يجمع ما بين النظم الرئاسية الأوروبية والأمريكي، الذي تخشاه المعارضة هو تركيز السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بمنصب رئيس الجمهورية وسحب الرقابة السياسية والإدارية عن البرلمان ويبقى فقط لسن القوانين المقترحة من رئاسة الجمهورية وأعلن زعيم المعارضة كمال قليج أوغلو أن حزبه (الشعب الجمهوري العلماني) الذي أسسه كمال أتاتورك سيصوت بـ(لا) على الدستور الجديد.
الجالية التركية في أوروبا تشكل رقمًا مهمًا في ترجيح قبول هذا التغيير الجديد الذي يعلق عليه الحزب الحاكم آمالاً عريضة في تثبيت واستمرارية حكمه بتحول جديد يعطي حرية أوسع لاتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية بفترة قياسية لتحريك عجلة التنمية وأن تبلغ تركيا بعيدها المئوي عام 2023م مصاف الدول المتقدمة أوروبيًا ودوليًا وهذا الهاجس ترجم أوروبيًا مع تزامن الحملات الانتخابية في دول وسط أوروبا وتفتحت بذور الأزمة الهولندية التركية مع حزمة من الأخطاء الدبلوماسية التي اقترفتها الحكومة في أمستردام بمنع التظاهرات للجالية التركية والمزدوجة الجنسية المؤيدة للتغيير الجديد والمرحبة بالنظام الرئاسي وبطريقة بوليسية وحشية غير مسبوقة ورافق ذلك منع وزيرة شؤون المرأة التركية من دخول الأراضي الهولندية وإعادتها إلى الحدود الألمانية بمعاملة لا تليق بوزيرة دولة (صديقة) وزاد الطين بلة قرار وزارة الخارجية بسحب ترخيص هبوط الطائرة المقلة لوزير الخارجية جاوش أوغلو الذي قدم لإلقاء كلمة في احتفال جماهيري معلن عنه مسبقًا في أمستردام بناءً على طلب الجالية التركية في هولندا الذي يقارب عددها المليون تركي مزدوج الجنسية وقد كشف زعيم الحزب اليميني الهولندي خرت فيلدرز والمعروف بعنصريته المتطرفة المعادية لكل الأجانب في هولندا بمقولته العدائية (رسالتي للشعب التركي بأنكم لن تكونوا أوروبيين ولن تشاركوا في الاتحاد الأوروبي أبدًا فالشعوب الأوروبية لا تريدكم معنا بمجتمع واحد لأنكم مسلمون لا تحترموا الحرية والديمقراطية وحقوق الإِنسان) وأفصح وبلسان أوروبي صريح أتمنى أن يفهمه كل الساسة الأتراك أولاً والعالم الإسلامي بإدراك أوسع.
التوتر الهولندي التركي تمدد لشمال أوروبا حيث أعلنت السويد والدانمرك وبلجيكا بتأييدها للإجراءات الهولندية وطالبت الرئاسة التركية بالاعتذار عن وصف الحكومة الهولندية بالنازية والفاشست وجمهورية الموز!! كما يتفق كافة المحللون الأجانب في الدول الأوروبية أن تداعيات هذا التوتر ستشكل حالات سلبية على أمن أوروبا بأكملها ولا بد للنظر بأهمية عالية للشعور الديني لأكثر من مائة وعشرين مليون مسلم تضمهم القارة الأوروبية وأن إعلان هذا العداء العنصري سيؤدي لردة فعل تكلف أمن واستقرار أوروبا كثيرًا وقد يكون الضار نافعًا تركيًا فقد وطدت هذه الأحداث في الوحدة الوطنية التركية بإعلان كافة الكتل والأحزاب التركية للحكومة وتفويضها باتخاذ كل الإجراءات المناسبة وطالب زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض بقطع العلاقات التركية الهولندية وتقديم شكوى دولية ضدها لخرقها للأعراف الدبلوماسية ومشاعر المواطنين الأتراك.
الخشية من توسع الخرق في العلاقات التركية الأوروبية وهي مهمة سياسيًا واقتصاديًا لتركيا ولا بد من المعالجة العقلانية وتغليب الحكمة والإجراءات المستندة للقانون الدولي والابتعاد عن التشنج والعاطفة الشعبية وسنرى في القريب تطورات هذه الأزمة الظاهرة الباطنة التي ستشكل وبصورة متوقعة تحريك بوصلة السياسة الخارجية التركية نحو اتجاهات بعيدة عن الفضاء الأوروبي.