د. محمد بن إبراهيم الملحم
نعم، نريد أن نؤمّن على التعليم؛ حتى لا يصاب بالحوادث أو الأمراض، وهذا - في نظري - أهم من التأمين على الحياة أو صحة الأفراد كما حرصت عليه وزارة التعليم مؤخرًا. وقد ضجت السوشيال ميديا بتعليقات منسوبي وزارة التعليم السلبية على طرحها التأمين الصحي في صورة تعاقدية مباشرة بين المعلم وجهة التأمين (التي اتفقت معها الوزارة) دون أية وساطة للوزارة تكفل للمعلم حقوقه، وكذلك دون توافر أية مكاسب «ذات قيمة» للمعلم، تميز هذا التأمين عن شرائه بطريقة مباشرة؛ ولذلك علق بعضهم بتشبيهه بـ«دعوة للغداء على حسابك». وتوالت التهكمات وأنواع التعريض والسخرية التي لا أقصد من هذه المقالة الترويج لها أو الثناء عليها، بيد أني لا أتردد في وصفها بالتصرف الطبعي إزاء قرار كهذا، وأمضي في تحليل الموقف من منظور أفضل الممارسات في الإدارة التربوية وما تشير إليه أدبياتها في السياق نفسه؛ لنتعلم من الموقف ونستفيد.
التشاركية في الرأي (Participation in Decision Making) هي إحدى أهم القضايا التي يبحثها علم الإدارة التربوية، وكُتبت فيه كتب وبحوث، وظهرت فيه نماذج ومداخل متنوعة، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية والنظم التعليمية المقتدية بها عبر العالم.. وهو يهتم بإشراك أطراف العملية التعليمية في صناعة الرأي، وفي اتخاذ الرأي أحيانًا، ويقدم ذلك من خلال أدوات معروفة عدة، كالمجالس والجمعيات واللجان وما يماثلها.. وقد عملت قياسات لذلك من خلال الأبحاث التقويمية والسابرة، واتضح جدوى التشاركية في القرار بشكل كبير في دعم فعالية القرارات. ومن أمثلة ذلك التشاركية في قرارات بشأن المناهج، التقويم، الوسائل، الخطط.. وهذه موضوعات تربوية بحتة، لا تمس المعلمين شخصيًّا، وإنما تمس عملهم، ولكن تظل مشاركتهم في صناعة القرار ذات تأثير وفاعلية. أما فيما يخص المعلمين شخصيًّا (كالتأمين الصحي والمساكن والنقل).. فإن التشاركية في صنع القرار تصبح أكثر وجوبًا، وأظهر فاعلية.
السؤال المهم: ماذا لو جرّبت وزارة التعليم أن تطرح فكرة التأمين الصحي قبل إعلانه على فئات متنوعة من المعلمين كعينات فحص في 5 أو 10 مدن مختلفة؟ النتيجة التي كانت ستتوصل إليها ستجنبها مثل هذه الاتفاقية المحرجة.. وليس هذا هدفنا هنا، وإنما ما هو مصير أي قرارات أخرى قادمة؟ وما مدى إيمان الوزارة بهذا المبدأ؟ بعض المسؤولين يرد على ذلك بأن المسؤولين الموجودين في ديوان الوزارة، ويتولون طبخ هذه القرارات، هم معلمون ومواطنون، يتفهمون ما يريده المعلم، ويقررون القرارات التي تتوافق مع ما يطمح إليه في الغالب.. ولكن هذا الرد الجذاب المفعم بالإقناع لا قيمة له في ظل وقوع هؤلاء المسؤولين تحت طائلة سلطة الوظيفة ومترتباتها الهرمية التي تسيطر على سلوك القرار؛ لتنمطه في اتجاه أحادي، يتوافق مع متطلبات التوافق الاجتماعي لآراء شخصية محددة، تملك المصالح والمسؤوليات الحساسة.. وهذا شائع في كل النظم التعليمية من حيث كونها تكوينات إدارية، تؤثر وتتأثر، سواء بالسياق الاجتماعي أو السياسات السائدة؛ ولذلك اتجهت النظم المتقدمة إلى أسلوب التشاركية في القرار؛ لتحرر عملية صناعة القرار من الاصطباغ بأي من هذه المؤثرات؛ فيكون القرار صافيًا، يعكس احتياجات المجتمع المستهدف وتطلعاته بقدر الإمكان.
التباعد الشديد الذي لاحظناه في قرار التأمين الصحي هو مجرد مثال واحد لما يمكن أن يكون عليه الحال لكثير من القرارات التربوية، بيد أن تلك لن تجد من المعلمين هذا التفاعل الاجتماعي الكبير؛ لأنها لا تعنيهم شخصيًّا؛ وسيمررونها كما هي، ويتعاملون معها بطريقة تكيفها كما يشاؤون بعد أن فُرضت عليهم.
أنا شخصيًّا لا يعني لي التأمين الصحي عن طريق وزارة التعليم شيئًا؛ لأني لا أنظر إليها كجهة أستشرف منها خدمتي في هذا المجال؛ فليس هذا واجبها في المقام الأول، وإنما واجبها تقديم خدمة تعليمية راقية؛ لذلك طرحتُ السؤال: هل نحتاج إلى أن نؤمِّن على صحة التعليم؟