د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** وقت ترجمتها ونشرها باللغة العربية عام 2006 م اشترى صاحبكم الرواية التي قيل عنها: «إنها من أكبر الروايات الممنوعة على مدار الأزمنة»، ثم أُنسيَها منشغلًا عنها كما غيرها وعاد إليها قبل أيام حين وجد في وقته متسعًا للبحث عن المركوم في مكتبته «الفوضوية» فقرأها بعناية متوجسًا مما سيُصادفه وقد يجبره على التحول عنها، غير أنه مضى فيها حتى «ما بعد نهايتها» متيحًا لذهنه التفكير في معطيات زمانها في القرن الثامن عشر الميلادي، ومكانها في فرنسا، ومؤلفها «المركيز دو ساد» الذي نُسبت إليه «السادية»، وأبطالها المتنوّعين بين قطاع طرق وتجار وأطباء ورجال دين ونساءٍ وفتيات وكبار وصغار، ومحورها الفتاة التي فرَّت بشرفها وتدينها فلم تلقَ إلا العار والدنس.
** لم يجد في رواية (جوستين) شطر بذاءات بعض الروايات العربية التي فرغ لها زمنًا يأسف عليه، مثلما لقي فيها حوارًا نادرًا بين الفضيلة والرذيلة والإيمان والإلحاد، كما كشفت عن تأريخٍ مهملٍ لأمةٍ كانت وظلت منارةً للتنوير والوعي وفق الأدبيات العربية والغربية دون أن يتوارى ناشروها ومترجموها عمّا قد يلحق بسمعتها من أوضارٍ وأضرار.
** مثل هذه الرواية - بالرغم مما قيل حول قصور ترجمتها - لا تستحق المنع، بل الإشهار كي نحرر أفهامَنا من دعاوى الأفضلية التي وسمنا بها غيرنا والدونية التي وصمنا بها أنفسنا؛ فلا ننسى أنها كتبت زمن «نابليون» الذي وُسم غزوُه «مصر» أو ما سمي « الحملة الفرنسية» منطلق التحديث في عالمنا العربي؛ إذ فكت رموز حجر رشيد، وأرهصت لحفر قناة السويس، وقدِمت بالمطبعة، وأنتجت كتاب «وصف مصر» ، ورسمت أول خارطة لها، وفتحت قنوات الوصل بين الشرق والغرب، ويكفي أن بين بني أبينا من دعا قبل سنوات إلى الاحتفال بمئويتها الثانية، وفينا من عدَّها منطلق الاستعمار البغيض الذي غادرنا شكلًا بعدما رسخ قواعده الشريرة في فلسطين.
** وإذن؛ فالرواية لا تحكي عن فرنسا متخلفةٍ في العصور الوسطى كي لا تُعدَّ الرواية «السيرةُ» اجتزاءً من حقبة مظلمة، بل هي وصفٌ فني مغلفٌ بالخيال لحقبةٍ مضيئة معتمة، وربما كشفت لمن رأى التخلّف بعينٍ واحدة ما لم تره عينُه الأخرى، ولعل من نعَوا علينا شيئًا من سلوكنا أن يتيقنوا أن الإنسان لا يقبل القسمة دون باقي.
** لا يمكن للمركيز دو ساد أن يعبّر عن فرنسا كما لا يستنسخ محمد شكري المغرب، وبالمثل فإن ما كتبه «ابن غنام» لا يوثّق مواقف الدين، ولا يمكن لمفجرٍ ومكفّرٍ أن يُرى علامةً فارقةً في تأريخنا؛ فالعالَمُ مليءٌ بالنظائر، والمنصفُ يفتح كلتا عينيه.
** الدنيا حكايا وزوايا.