د. فوزية البكر
سأدع سيدة من الطائف وتدعى سعاد تتحدث بلسانها عن أحوالهم حين كانوا صغارًا في مدينة الطائف.. حين كان عالمنا ينمو بشكل طبيعي وفطري ولنرى من خلال حديثها حجم التحول الهائل الذي طرأ على حياتنا وعلاقتنا العائلية والاجتماعية دون أن ندري. تقول:
كل ليلة قمرية اللي هي نص الشهر ليلة 14 أو 15 نروح كلنا كعائلة في منطقة الحوية وفيها منطقة اسمها الزحليقة وهي صخرة كبيرة يتزحلقوا عليها الأطفال وما أنسى خالي أبدًا -الله يرحمه- كان يتمدد ويتأمل النجوم ويقول لنا آيش شايفين فوق؟ وكنا كلنا إخواني وخواتي وخوالي وأعمامي وأولاد عمي كلنا عائلة نتمتع بضوء القمر لأن ما كان فيه أنوار فتستمتعي بهذا الضوء الطبيعي مع العائلة ككل. كانت هناك مناطق مشهورة مثل منطقة الشريعة الممتلئة بالبساتين آنذاك والمزهرة بالعنب والرمان والتين والبرك المائية.
وفي إجازاتنا المدرسية نأخذ جيراننا وأصحابنا وأحبابنا ونطلع للشفا نستأجر بيتًا من البدو. النسوان ياخذوا غرفة ويفرشوا على الأرض ويناموا والرجال كمان على الأرض ونصحى الفجر للصلاة جماعة رجالاً ونساءً وأطفالاً وناكل العصيدة، وبعدين بدري نروح نشوف البدويات ونقطف معاهم الورد الطايفي ونساعدهم ونرجع نتغدا سليق أو أي شي شعبي وفي العصر إلى المغرب نلعب كلنا شباب وشابات كونكان أو بلوت أو أية لعبة وأحيانًا نقرر أنه يوم نصعد جبل من الجبال ونتمتع بالطبيعة وتعرفي كنا نقطف الرصف (الذي يسمي اليوم الماستيرد) بورداته الخضراء وتقوم أمي بتخليلها ولا كان عندنا عقد ولا عُبي ولا فصل بين الأولاد والبنات وكل الناس تجلس مع بعض طبيعين وعشان كذا كانت طفولتنا من أجمل ما يمكن لأننا كنا نعيش في الطبيعة وفي البساتين ومع أهلنا فلم نكن كأطفال معزولين كما لم نكن مشتتين.كان اهتمام العائلات بالأطفال وإشراكهم في كل شيء أحد مظاهر الحياة التي تجمع الكل صغارًا وكبارًا ولذا نشأنا على العلاقة مع الطبيعة ومع السماء ومع الخالق نؤدي واجباته ويرعانا.
ومن الذكريات التي لا تزال محفورة في ذهني هي ما كانت نساء الطائف تفعله أيام الحج إذ يفترض المجتمع آنذاك أن الرجال كلهم لازم ينزلوا على مكة للحج ولذا فإن بعض النساء في أيام الحج يلبسن ملابس الرجال البيضاء ويمشين في الشوارع ونحن الأطفال خلفهن محاولات إغاظة أي رجل لم يذهب إلى الحج وملاحقته والضحك عليه وإطلاق الأسماء عليه إذ يفترض المجتمع أن الذكور جميعا يجب أن يؤدوا فريضة الحج في كل عام ومن لا يذهب نجري نحن والنساء وراءه لابسات ملابس بيضاء تشبه ثياب الرجال (ولا يُنعتن بالمتشبهات بالرجال). ونبدأ في اللحاق بالرجال ممن لم يؤدوا فريضة الحج ونغني فوق رأسه يا قيز يا قيز، الناس حجوا وانت ليه؟
والناس تضحك وترجي في الشوارع بأمان وبدون خوف ولا قلق على طفل أو فتاة ثم نذهب نحن النساء والأطفال إلى أحد المنازل حيث يتم في مجلسه تشكيل مسرح نسائي تمثل فيه السيدات أنفسهن فتتفق ثلاث أو أربع نساء على حكاية معينة ويقمن برسم الشخصيات من خلال وضعهن مثلا صورة لشنب لتمثيل دور الرجل والبعض الآخر يمثل شخصيات نسائية ومن ثم يقمن بتمثيل حكايات البيوت للحاضرات من النساء والأطفال المندهشين بالشخصيات والحوار والقفشات الضاحكة وياللخسارة انتهى ذلك كله دون تسجيل ودون أن يعرف أو يحفظ للدراسات التاريخية كما لا يتذكر الجيل الحالي أي شيء منه.
تذكرت وهي تحكي لي قصصها الحقيقية عن حياتها الطائفية كيف تم تشويه طفولتنا في المدن الكبيرة بحصارنا داخل هذه البيوت الاسمنتية دون أية علاقة مع الطبيعة والهواء والمياه مما خلق أجيالاً مشوهة فقدت قدرتها على استنطاق الطبيعة أو التعامل معها إلا بالقتل والتحريم والتجريم والاستعلاء فوق الخلق واستغلال الدين لتحقيق مصالح شخصية ودنيوية.. كيف تم تشويه جيل بكامله باسم أنقى الديانات وباسم أشرف المرسلين... إني أتساءل في حسرة: كيف سيحكي أطفالنا لأولادهم عن طفولتهم وماذا يا ترى سيقولون؟