المدينة المنورة - خاص بـ«الجزيرة»:
الدكتور عبدالله بن محمد بن سليمان الجارالله - استشاري ورئيس قسم طب الأسرة والمجتمع بمستشفى الأمير سلطان بالقوات المسلحة في المدينة المنورة هو ممن أكرمه الله بأن جمع بين الدراسات القرآنية وتخصصه في دراسات الطب، وقرأ القراءات العشر على كبار مشايخ الإقراء بالمدينة المنورة، وقام بتأليف مجموعة من الرسائل العلمية المفيدة، وشارك في تحكيم العديد من المسابقات القرآنية داخل المملكة وخارجها، حَفِظَ القرآن وعمره (11) عاماً، ودرس المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية بمدارس الرياض، ثم التحق بكلية الطب بجامعة الملك سعود وتخرج منها عام 1416هـ، ثم حصل على الزمالة السعودية والعربية عام (1418هـ).
ومع دراسته التخصصية في علم الطب التحق دارساً بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض بقسم القرآن الكريم وعلومه منتسباً، وحصل على التفوق والامتياز، ثم التحق بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية قسم الدراسات العليا، ونال درجة الماجستير في أطروحته بعنوان: (إتحاف البررة بما سكت عنه نشر العشرة)، ثم التحق دارساً بمرحلة الدكتوراة في الجامعة نفسها، حيث حصل على الدرجة العالمية في تحقيق ودراسة كتاب: (غنية الطلبة بشرح الطيبة)، لمحمد محفوظ بن عبدالله بن عبد المنان الترمسي (ت:1338هـ).
كما عرض القراءات العشر على كبار قرائها، وارتحل إلى مصر والشام للقراءة على كبار العلماء والمقرئين فيها، وكانت له رحلات علمية إلى بلاد المغرب العربي في نفس السياق.
حصل على المركز الأول في الفرع الأول بمسابقة الملك عبدالعزيز الدولية لحفظ القرآن الكريم وتجويده وتفسيره عام 1413هـ، كما نال المركز الأول مكرر عام 1412هـ في مسابقة الملك سلمان المحلية للقرآن الكريم، وله مجموعة من المؤلفات والتحقيقات.
يقول د. عبدالله الجار الله: أن دراستي للطب خير محفز على الاستمرار في التزود من العلوم الشرعية، والعناية بالقرآن الكريم وعلومه، حيث أدركت من خلال دراستي للطب بأننا -نحن الأطباء- نسهر الليل ونصله بالنهار ونقضي الأوقات الطوال في مراجعة الكتب والمناوبات، والحرص على تحصيل الدرجات في المقررات، والزمالات، واستغراق الأوقات الطويلة في المذاكرات، فإذا كان ذلك في علوم الدنيا، فإن العناية والحفاوة والاشتغال بالقرآن العظيم أولى وأعلى وأجل وأكمل. وقد جعلت تخصصي ودراستي في علم الطب معيناً للمهمة الأولى -في نظري- وهي حفظ القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه. فأورثني الله بركة الوقت وبركة العلم. وقد كان الطب سبباً في بعض ما حصل لي من التمكين في تحصيل القرآن الكريم وعلومه، وحيث إن التوفيق في خدمة القرآن الكريم وشؤونه مما تجمل به النواظر وتسعد به الأسماع، وتهنأ به القلوب، والله تعالى اختص أهلَ القرآن بحفظ كلامه من بين الخلائق، وشرفهم باتصال أسانيدهم إليه. وحيث إني كُلفت برئاسة الهيئة الإشرافية للمركز الخيري لتعليم القرآن الكريم وعلومه بالمدينة النبوية، فقد حاولنا من خلال المركز الخيري لتعليم القرآن الكريم وعلومه أن نسهم بفكر وعلم واحتراف في خدمة القرآن الكريم وعلومه بكل وجه ممكن، وذلك من خلال مشاريع نوعية وبرامج مميزة ومتخصصة، ووسائل متقدمة، مستهدفين بتلك الخدمة جميع الفئات في المجتمع المدني.
وكان من المشاريع الرائدة التي تبناها المركز الخيري في المدينة النبوية، مشروع يعنى بتفعيل القرآن الكريم في حياة أهله وحفاظه والمشتغلين به، وسمينا هذا المشروع (كان خلقه القرآن). فقد أظهرت بعض المسوحات الميدانية على الحفاظ والمدرسين في حلق التحفيظ والدور والكتاتيب قصورا شديداً في تمثل القرآن العظيم في حياة أولئك الحفاظ والحافظات والمدرسين والمدرسات، كما أظهرت إخفاقاً عالياً في تفعيل القرآن العظيم في حياة الناس - سواء من الناحية السلوكية والأخلاقية أو في جانب العيادات والمعاملات.
الحقيقة الكبرى
ويمضي د. الجار الله بالحديث قائلاً: كنا نبحث عن جواب على الأسئلة الحائرة: إذا كان القرآن الكريم يؤثر في الكافر حتى يصبح مسلماً، ويؤثر في المريض حتى يشفى، ويؤثر في الجبال الصماء حتى تخشع وتتصدع من خشية الله، فما باله لا يؤثر في بعض المشتغلين به حفظاً أو تعليماً؟ وما باله لا يؤثر في بعض الذين يقرئونه ويتلونه؟.
وهذا يؤكد الحقيقة الكبرى، وهي: أنه لابد من العودة إلى كتاب الله عز وجل، الذي هو ينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، من اتخذه سميره وأنيسه وجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظراً وعملاً لا اقتصاراً على أحدهما يوشك - كما قال الإمام الشاطبي - أن يفوز بالغية، وأن يظفر بالطلبة.
لابد أن يتذكر الحافظ والمشتغل بالقرآن بل وجميع الناس بأن الالتزام بالقرآن والعمل بما فيه هو الضمانة الحقيقية لإصلاح المجتمع، ولرفع الغمة عن الأمة، فالتخلق بأخلاق القرآن الكريم منقبة عظيمة، أثنى الله بها على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)، التخلق بأخلاق القرآن العظيم يكون في علاقة المسلم مع إخوانه المسلمين، وفي علاقة المسلم مع زوجته وأولاده، والتخلق بأخلاق القرآن يكون بأن يصحح الإنسان علاقته بالله العظيم، فيلتزم ما أمره الله به، وينتهي عما نهى الله عنه، والتخلق بأخلاق القرآن الكريم مطلب ضروري لجميع المسلمين، وحاجة قصوى لا يمكن الحياة السعيدة بدونها؛ خصوصاً وأن المسلمين يعيشون فترة حرجة وأحوالا عصيبة؛ فقد تكالب الأعداء على المسلمين، واستشرت الفتن والشبهات، حتى أصبح الوصول إليها أسهل من شرب الماء، إن التخلق بأخلاق القرآن الكريم هو: تمثُّل التقوى بمعناها الكبير؛ طاعة الله في ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر.
إنَّ لأهل القرآن وطلابه في سيرة الإمام الربانيّ محقق علم القراءة والإقراء -ابن الجزري رحمه الله- أسوة حسنة، فقد قال الإمام النويري عن شيخه الإمام ابن الجزري: (وكان -رحمه الله- كثيراً ما يضرب البلاد شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً قصداً للاجتماع بمن لم يُمَكِّنه الزمان أن يجتمع به؛ ليكون له نصيبٌ من دعائهم أجمعين)، انتهى.
فإنَّ كثيراً من رحلاته، بل جميع رحلاته، كانت بقصد تعليم القرآن ونشر السنة، حتى أعياه التعب، وتقدم به العمر، فلم يقدر على الرحلة في ذلك ولأجل ذلك، وهو ما عبَّر عنه في كتابه لبعض تلاميذه وقد قعدت بهم الهمة من أن يلحقوا به ويكملوا معه المسيرة، وهو مقيم في مكان قريب منهم؛ قال -رحمه الله تعالى-: (وأعجب من ذلك أنَّ بيننا وبينكم يا معشر القراء هذه المسافة القريبة ولا يكون لكم همة أن يرحل أحد منكم فيأخذ القراءات بهذا التحقيق، وإني لأقسم بالله -تعالى- أني لو تمكنت من الخروج لخرجت إليكم وإلى غيركم ليؤخذ عني هذا العلم الشريف العزيز، الذي لا أعلم أحداً اليوم على وجه الأرض يعرفه إلاَّ من قرأ عليّ) ولما قَدِم الإمام ابن الجزري على الملك بايزيد في مدينة بورصة أكرمه الملك غاية الإكرام، حتى قال ابن الجزري عنه: (فبالغ في الإنعام والإحسان، والتمس مني الإقامة بدار ملكه، ورتب فوق الكفاية)، فكان جوابه -رحمه الله- جواب العلماء المخلصين المعرضين عن الدنيا، المقبلين على الآخرة؛ حيث قال: (فقلت له: إني لم أجئ إلا لأحضر الغزاة، وينتفع بي من ينتفع؛ ممن لا يقدر على الرحلة، وأعود)، فهو -أي الإمام ابن الجزري -في ذلك كله- من الإقراء والرحلة والتصنيف- لا يريد إلا الثواب من الله والأجر الجزيل، حتى قال في مقدمة كتاب النشر (وأني لأرجو عليه من الله -تعالى- عظيم الأجر، وجزيل الثواب يوم الحشر، وأن يجعله لوجهه الكريم من خالص الأعمال، وأن لا يجعل حظ تعبي ونصبي فيه أن يقال).
كما أن في سير المشايخ الكبار من الاعلام المعاصرين سير عطرة يجب أن يأخذ منها حفاظ القرآن وطلابه وطالبيه العظة والعبرة وأن تكون دليلاً لنا جميعاً في طلب هذا العلم الشريف. وهل يريد أهل القرآن المخلصون من رحلتهم وإجازاتهم وتصنيفهم ومجالس إقرائهم إلا رضا الله تعالى مع دعوة صالحة -من قلب مؤمن- تلقى ساعة إجابة فيسعدون بها في الدنيا والآخرة.