إن عملية الإبداع الفني تشتمل على الجدّة والابتكار اللذين يحدث عنهما اتحاد لا ينفصم بين الفكرة والإطار معاً، فالفكرة المبتكرة ترتبط لا محالة بإطارها المبتكر، والعمل الأدبي القيم هو العمل المبتكر الذي يريد أن يعمق ويوسع خبرتنا في الحياة، وهذه الخبرة كانت ارتسمت أولاً في وجدان الشاعر، ثم انتقلت إلى وجدان المتلقي، وبناء على ذلك نرى أن الأصالة خلق للفن من تراث سابق، تظهر فيه ذات الشاعر، كذلك فإننا لا نجد فروقاً كبيرة بين الأصالة والإبداع الفني، فكلاهما استكشاف للحقائق، وخلق للعلاقات الوجدانية، والمعنوية بين عناصر العمل الفني من جانب، وبينها وبين ذات الشاعر من جانب آخر، كذلك فإن حقيقة الإبداع والأصالة تبرز واضحة عندما نتعرف إلى مواقف الشاعر من قضايا الموهبة والتقليد والثورة على التقاليد الشعرية.
نتج عن قضايا الخصومة بين القدماء والمحدثين، تصور أن كل تجربة جديدة إنما تحمل نوعاً من العداء للقديم المتوارث والمستمر، ومن هنا كان القديم هو الأساس، والمثال الذي يفقد الشعراء ذواتهم لينصهروا في بوتقة الإبداع العامة، دون أن يكون لتفرد الشاعر أي نصيب، من هنا نشأت هذه الخصومة التي كانت تزداد وتتسع عندما تنمو في الأدب العربي ظواهر تجديد، تستدعي حركة نقدية، ولعل دعوة أبي نواس إلى تجديد حياة الأدب، كانت أولى هذه الحركات النقدية التي أخذت طابعاً عدائياً للشاعر في أغلب الأحيان، لأن التعصب للقديم يمنع العقل والنفس من رؤية الجديد الذي يخرج عليه، من هنا كانت الأحكام الجزئية السريعة للقدماء قائمة على عدم استقراء دقيق للشعر، ومن هنا لم تكن موضوعية الأساس.
ونشير إلى أنه لم يكن موضوع الزمان أو النظرة المقدسة للشعر القديم، أو التعصب ضد الشعر المحدث، العنصرين الوحيدين في هذه الخصومة، وإنما كان من هذه العناصر: سيطرة عمود الشعر، ونهج القصيدة العربية، أو ما يتعلق ببنائها الفني، والأساس الفني الذي قامت عليه قضية السرقات الشعرية، وهو أن القدماء قد استنفدوا المعاني، ولم يبق للمحدثين شيء يقولوه، فعمود الشعر، أو نظام القريض، كما يسميه الجرجاني، هو ما يشتمل على عناصر تتعلق باللفظ والمعنى، والوصف والتشبيه، والأمثال وشوارد الأبيات، والاستخدام البلاغي في الشعر، وهي الأمور التي كانت العرب تفاضل بها بين الشعراء، لأنها مستمدة من التراث الجاهلي، فالجرجاني يتصور أن البديع، أو الصنعة هي الفارق الوحيد بين عمود الشعر، الذي يلزم الشعر التقليدي بأصوله، وبين ما هو خارج عنه، إلا أن المرزوقي استطاع أن يضع الأسس العامة والنوعية لهذا العمود من وجهة نظره الخاصة، أو حسبما وصلت إليه، وهو يبغي من ذلك التمييز بين تليد الصنعة وطريفها، وقديم الشعر وحديثه، لكي يعرف ما هو مزيّف، وما هو مختار منه، وليقف القارئ على المصنوع والمطبوع من الشعر.
لكن الأمر الذي لا شك فيه أن الشعراء المجددين في القرن الثاني قد خرج معظمهم على القيود المتوارثة، ففرق كبير بين التقليد الموروث والثابت، وبين حداثة الزمان وجدة الفن، لأن تطور الحياة يجب أن يرافقه تجديد لدماء الفن، وربما هذه تكون الزاوية في النظر، هي الرائز الأقرب للحياة ومنطقها، في التعامل مع الفنون جميعها لأنها صورة الحياة في تطورها المستمر.
- طامي دغيليب