السلوك المافيوي للرأسمالية لا يقتصر على مجال واحد من مجالات الحياة الاجتماعية، إنما يشمل كل النشاطات الإنسانية وبالدرجة الأولى الفنية منها.. لماذا يمتلك النشاط الفني الأهمية الكبرى؟ ولماذا تبذل الرأسمالية مبالغ خيالية للسيطرة على هذا النشاط؟ ذلك لأن الفن ليس مرهوناً بالتطور والازدهار الإنساني وحسب، إنما يؤثر الفن على مجمل النشاط الإنساني الواعي المؤدّي بالضرورة إلى التقدّم. ولكن هل التقدّم من صالح الرأسمالية؟
في عصر النهضة والتنوير كان التقدّم ضرورياً للرأسمال لأن سقوط الأنظمة القيصرية يحرر الرأسمال من القيود السلطوية واللاهوتية التي تعيق انطلاقته كنظام اقتصادي- اجتماعي. أمّا بعد سقوط الإقطاع في أوروبا واستلام الرأسمال للسلطة السياسية تحول إلى مافيا تعيق أي توجه للتقدم في الدول الصناعية أو النامية. وذلك لأن التقدّم يؤدّي بالضرورة إلى تجاوز النظام الرأسمالي إلى ما هو أفضل منه.
يقول المؤلّف البريطاني آلان وودز في مقال بعنوان «الرأسمالية: تهديد للثقافة» نشر في 25 أبريل 2003م (لم تعد البرجوازية في عصر انحطاط الرأسمالية بقادرة على التقدّم بالحضارة الإنسانية... إذ تتميز المرحلة التي يمر بها تاريخ الرأسمالية - إلى جانب المميزات الأخرى - بغياب كلي لأي إبداع فني أو فكري أو فلسفي عظيم. إنها مرحلة تتسم بالسطحية القصوى والفقر الفكري والفراغ الروحي - مرحلة أصبح فيها بإمكان جورج بوش أن يكون رئيساً ودجاف كونز فناناً ذا شأن... فربما لا يمثل فنان البوب الأمريكي دجاف كونز ذروة العبقرية الفنية ولكن تدر إنتاجياته أرباحاً طائلة. فقد باع أحدهم تمثالاً لكونز... يصوّر مغني البوب الشهير برفقة قرد. وكان ثمن هذه (الرائعة الحديثة) لا يزيد على 250000 دولار في سنة 1991 ولكنها بيعت فيما بعد بمبلغ 5.6 مليون دولار... وإذا كان ممكناً تحقيق مثل هذه الأرباح من الفن فما الذي يجبر أصحاب الرأي السديد على الاستثمار في القطاعات المنتجة؟... توجد اليوم سوق عالمية مزدهرة للفن يقوم فيها المستثمرون بشراء كل ما هو موجود، وغالباً ما يدفعون مبالغ لا يصدقها العقل... إلا أننا لا نرى أي شيء له صلة بالفن نفسه. فالفن هنا يقدّم على أنه مجرّد بضاعة قابلة للبيع مثل العلق أو السراويل أو النفط العراقي... بعض الأعمال الفنية المعاصرة -النوعية الرخيصة منها- ستزين واجهات ومداخل الاستقبال للشركات. وأغلب الأعمال الجميلة منها سيحتفظ بها في أقبية البنوك...) (التشديد لكاتب هذه السطور).
ما تفضل به المفكر البريطاني يثير لدي عاصفة من التساؤلات والأفكار وكأني أصحو من النوم للتو، فـ(الجمال المعاصر) مدفون في أقبية البنوك، وذوقي أنا وذوقك أنت والذوق المشترك الجمعي يتشكل في أسواق الابتذال.
معظمنا يعتقد أننا تخلصنا من الغزو الثقافي والفني والفكري لمجرّد أننا اكتشفنا المؤامرة، ثم يأتيك من يتساءل بكل وقاحة وسوء نية: هل تؤمن بنظرية المؤامرة؟ وهو ينظر إليك برأس مائل وكأنك طفل قد ارتكب معصية ما.
جوابي دائماً لهؤلاء: لا توجد نظرية اسمها (نظرية المؤامرة) إنما توجد مؤامرة رأسمالية ضد النظام الرأسمالي ذاته، حيث تحول الاقتصاد الرأسمالي -بهذا النهج المبتذل- إلى اقتصاد ريعي طفيلي يلهث وراء الربح فقط حتى لو تطلب الأمر تشويه الاقتصاد والذوق والوعي الإنساني كله.
ركّز وودز في دراسته على الفن التشكيلي بالدرجة الأولى ولكن ماذا عن السينما المبتذلة التي تشكل ذوقك بكل اقتدار التقنيات الحديثة وتوهمك بأن الرجل الأمريكي الأبيض هو الحل لكل معضلات الدنيا، وأن الفيلم السينمائي ليس بالضرورة أن يحمل الهم الاجتماعي -على مبدأ (الفن للفن)- وذلك حتى لا يرهق أعصابك فلا يجب أن تكون مشغولاً دائماً بهمومك الحياتية. كما أن مقولة أعطني مسرحاً وممثلين أعطِك شعباً مثقفاً، التي آمن بها شكسبير، تخص ذلك العصر وحسب، فالثقافة بالنسبة إليك هي كيف تحقق أعلى درجات الربح حتى لو بعت أهلك في سوق النخاسة. ولا مانع من أن يكون المسرح أيضاً مفرغاً من الهم الاجتماعي، والممثلون يتحركون على الخشبة كالقرود من أجل التسلية ولا شيء سواها، وإذا كان لا بد لك من التطرّق للهم الاجتماعي فالجأ إلى الغموض أو السطحية، وستجد أعمالك (العظيمة) ترحيباً حارّاً من (النقاد) أو (النخبة) وتصبح أعمالك ذات (شأن) مربح.
أما ما يخص الشعر المعاصر: فلماذا لا أسمع في عصرنا هذا عن شعراء أفذاذ كشعراء عصر النهضة والتنوير، سواء في أوروبا، أو الدول الغربية المتقدّمة عموما؟ ربما لأنني لست شاعراً! ولست فناناً! ولكنّي أستمتع بالشعر الراقي في كل مرتع يحتدم فيه الصراع الاجتماعي في الدول المتقدمة والنامية على السواء! المشكلة إذن لا تكمن فيّ أنا كمتلقٍ، إنما في الطغمة المالية التي تقودني وتقودك وتقود الشاعر والفنان كالإمّعات للهث وراء الربح وترك الحاضنة الأساس للفن -ألا وهي التفاعل الاجتماعي والتناغم مع التطور.
إذا لم يقوَ الرأسمال على تصفيتك كفنان يحمل الهم الوطني، فأبشر بإغرائك بالشهادات أو المناصب أو المال كي تتغيّر، وإنْ لم تستجب فأبشر بسيل من النقد (الراقي) الذي يحط من شأنك أو يشوّه سمعتك. وإذا لم ترضخ لكل ذلك فسترمى أعمالك في أقبية البنوك ثم تباع بمبالغ خيالية بعد أن تموت.
هل يعتقد المواطن الغربي بأنه راقٍ لأن لديه تراث موسيقي نسجه رواد عصر النهضة مثل بتهوفن وموزارت وتشايكوفسكي وغيرهم؟ إذن لا بد من السطو على ذوقك غير المربح وتلويث أذنك الموسيقية بالصخب والكلمات التافهة والجنس، كي تبقى أسيراً للابتذال وتلجأ للجريمة المنظمة من أجل تفريغ همّك الاجتماعي.
قيمة العمل الفني في الغرب يحددها السوق، والسوق ليس جماداً فهو يعكس نشاطاً إنسانياً، ومهما كان مقدار نشاط أصحاب رؤوس الأموال لتكريس الابتذال في الفن والفكر، يبقى هناك صراع في داخل تلك السوق بين الابتذال والحداثة.
ربما هناك حرب مدفوعة الثمن ضد الحداثة في الغرب، ولكن الحداثة تزيح الابتذال تدريجياً وتتوسع. ففي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح ولن (يُدخِل الرأسمال الفيل في خرم إبرة) حتى لو دفع نصف ثروته.
- عادل العلي