أواصل اليوم مناقشة ردود الاستاذ العيسى على تغريدتي الموضحة في المقالة السابقة. حيث يضيفُ الاستاذ علي في عدد من التغريدات المتتالية - التي تصرَّفتُ فيها قليلاً لغرض دمجها- قائلاً:
«الليبرالية ليست مذهبًا ولا منهجًا محددًا، ومبادئ مقننة، ولا هي كالعلمانية مصطلح يمكن تعريفه وتحديده إلى حد ما، إلا عند من يتبنّى الليبرالية كمنهج وشيء قائم بذاته -في رأيه- كعلمانية تتستر بالحرية الليبرالية، كمصطلح أخف وطأة!. الليبرالية صفة يتسم بها من شاء، إنها فضاء واسع فالفرد يكون أحيانًا محافظًا في شيء، أو متشددًا، أو ليبراليًا، ومخالفًا لليبرالية في مواقف أخرى وبنسب غير مستقرة».
وردّي عليه هو أن كلامه سليم؛ ولكنّه لا يخص الليبرالية وحدها، فهو عام ينطبق على غالب التوجهات والحركات والتيارات والمصطلحات والأحزاب والمسمّيات الدينية والفكرية والفلسفية المختلفة وغيرها، ولا سيما الكبرى البارزة منها، فهل يعرف الاستاذ علي أي دين أو مذهب عقدي أو فقهي مثلاً، أو أي منهج أو تيار فكري أو فلسفي، يتفق كلُّ المنضوين تحت لوائه على جميع مبادئه وقوانينه وتعاليمه وقيمه وأحكامه... إلخ. هذه عندي أمّ المشكلات ليس في الليبرالية وحدها، وإنما في كل التيارات والمذاهب والمدارس والتوجهات والحركات الفكرية والفلسفية والاجتماعية والدينية الكبرى، وغيرها.
فالإسلام مثلاً كدين، يوجد بين أتباعه من الخلافات والاختلافات والصراعات ما لا يحصى. ولذلك نجد في المسلمين من يرحب - مثلي- بالليبرالية كمنهج حياة لا يتعارض مع الإسلام.. وفي المقابل نجد من لا يرحب بها ولا يقبلها؛ لأن فهمه للإسلام يرى أن الإسلام يرفض التعايش مع الآخرين واحترام قناعاتهم ومعتقداتهم، فلا بد - عند هؤلاء- أن يفرض المسلم قناعاته الخاصة على غيره من الناس بالرغم من أنوفهم، وأن يبذل كلّ ما بوسعه لإجبارهم على اعتناقها والخضوع لها!.
وإضافة إلى ذلك، هناك عدد من الأفكار الأساسية الكثيرة المتفق عليها تقريبًا عند غالب الليبراليين، ويمكن جمع أبرزها -في نظري- في هذا المُخمّس: (عدل؛ حريّة؛ تعايش؛ مساواة؛ سلام).
ثم يضيف الاستاذ علي:
«الليبرالية سمة واسعة، وصفة غير محددة وسلوك، وحتى في نظر غير صاحبها أي في نظر الآخرين متأرجحة المعنى والموازين، مشاعة، زئبقية، سهلة التنقل والادعاء بها وبحلاوة حريتها المغرية!. أما من تبنّاها وصوّر لها منهجًا هو لغيرها، فقد يجعلها شبه دين، أو ربما دينًا له، فيه معصية قد تصل حدّ الجريمة المعتدية تجاه الأديان والمبادئ الأخرى والقيم والنظريات الإنسانية، وبخاصة الإسلام الذي يختلف عن الأديان السماوية الطقوسية، أو الوضعية».
وهنا أقول له: اتفقنا - نسبيًا- من خلال ردي السابق، على أن الليبرالية - كغيرها من التيارات والمناهج والمذاهب الكبرى- فضاء واسع؛ ولكنّي اختلف معك هنا في نقطتين:
1- وصفك الأديان السماوية الأخرى بالوضعية، فهذا الوصف خاص بك، وقد لا يكون صوابًا عند غيرك؛ لأن بعض أصحاب الأديان السماوية الأربعة أو الخمسة الأخرى باختلاف مذاهبها، يرون أيضًا أن ديننا الإسلامي - بحالته الراهنة- وضعيٌ في كثيرٍ من نواحيه السائدة بين المسلمين اليوم، وهذه مسألة شائكة يطول الحديث فيها.
2- زعمك أن الذي يتبنّى الليبرالية كمنهج، قد يصل بها إلى حدّ الجريمة المعتدية تجاه الأديان والمبادئ والمعتقدات الأخرى. فهذا غير صحيح إطلاقًا عندي؛ لأنّ من يقوم بذلك يخرج من دائرة الليبرالية التي أُحبّها وأتبنّاها، فهي ترفض أي اعتداء على معتقدات الآخرين، ولا علاقة لي بمن - إن وجد- يفهم الليبرالية بشكل آخر، فيه تبرير أو تأييد لاعتداء الإنسان على معتقدات الآخرين وحرياتهم.
الليبرالية يا صديقي لا تعتدي، بل تحمي جميع الحريات الدينية وغير الدينية؛ ولكنّ الإشكال الضخم هنا هو ما ذكرتُه لك في خاتمة الجزء السابق، حين تحدَّثت عن قاعدة (لا حرية لأعداء الحرية). فإذا كنتَ ترى -كما يرى بعض المسلمين- أن مذهبك الديني أو فهمك للدين يأمرك بالتجاوز والاعتداء على حريات الآخرين والتدخل في خصوصياتهم وإكراههم على ما تريد والإساءة لهم؛ وإذا كنتَ تعتقد أن الليبرالية تكون مجرمة إذا طالبتْ بمنعك من تلك الإساءة ومن ذلك الاعتداء. إذا كنتَ ترى وتعتقد ذلك، فهذه مشكلتك أنت لا مشكلة الليبرالية الجميلة.
وللحديث بقية..
- وائل القاسم