المشرحة النقدية لا تعرف أني تلميذ والغذَّامي أستاذ، ومن يقرأ التاريخ غايته أن يبحث ويتأمل في أسباب السقوط والانهيار كما يقول مونتيسكو، حاولت أن أتأمل من أين أتت فكرة بروز الشعبي لدى الغذَّامي وسقوط النخبة؟ وفي النهاية من الذي سقط؟. حاولت أن أتتبع ما الذي دفعه لهذه المقولة، ووجدت لها سببين.
السبب الأول: ذكره الغذَّامي في كتاب «ما بعد الصحوة» عن اهتمام الصحوة بالحشود وأثرها في بروز الصحوة أمام الحداثة، حتى أنه يتذكر أنه في بعض الأمسيات التي يقيمها النادي الأدبي لا يحضرها أحد، بالرغم من أهميتها، بينما كانت الجوامع تغص بالحشود أمام واعظ يخوفهم من النار، ثم يعقّب عليها ويقول، لقد تعلمنا من الصحوة أن نلقي بدون تكلف وأن يكون الخطاب يفهمه المتلقي العامي والمثقف.
السبب الثاني: يرجع إلى النخبة المثقفة على حد تعبيره، ويقول في إحدى محاضراته « في إحدى المرات كنت أمشي في أروقة الجامعة وقابلني طالب (ولم يعرفني)، وأنا قد جاوزت الثلاثة عقود في الجامعة وكتبت كل تلك الأبحاث والمقالات والكتب وكنت من أهم الحداثيين والنقاد « كانت هذه صدمة بالنسبة له، وظن الغذَّامي أنه نخبوي ويسكن في برج عاجي ولا يعرفه أحد.
ثم أتت مقولة بروز الشعبي وسقوط النخبة التي لم أفهمها حتى رأيته هذه الأيام وهو متفاعل في موقع تويتر، وصار يلبي طلبات المغردين، وصار الناس يعرفونه «بالثامنة حدي» ولا «يعرفون الخطيئة والتكفير» أو «اليد واللسان».؟
الحقيقة المرة أنني أوهمت نفسي أن الغذَّامي أستاذ النظرية والنقد قد مات، وأن آخر أعماله كتاب «ثقافة تويتر»، لأن الذي يغرد في تويتر ويكتب المقالات ليس الغذَّامي؛ الذي يكتب هو حالة تفسيرية لمقولة بروز الشعبي وسقوط النخبة.
بعد نزوله للشعبي هل سقطت النخبة وبرزت شعبيته، أم تجاوزه المثقفون.!؟
قضى الغذَّامي جل عمره ينقد وينشر ثقافة النقد مهما كلفه الثمن، وغضب عليه كثير من المشايخ ودعا عليه خطيب جمعة من على المنبر، وخاض أشد المعارك دفاعاً عن أفكاره، وكان مُلهِماً بالنسبة إلي وللأجيال من قبلي، لكن معاركه الآن باتت مع شركات الكهرباء والاتصالات تفسر لنا بروز الشعبي وسقوط النخبوي.!؟
للأسف إننا نخسر في كل يوم جبلاً من جبال العلم والثقافة، إما بموت، أو بمنصب حكومي، أو سقوط شعبي.
للأسف إننا في مجتمع نحتفي بالمنشدين والوعاظ أكثر من المثقفين والأعلام، ولم نتعلم في مدارسنا أو صحافتنا أن نستفيد منهم، وكيف نستفيد منهم، وأصبح المثقف يحاور نفسه ويكتب لنفسه وينقد نفسه؛ لأن لا أحد يسمعه أو يفهمه، انظر إلى الكتب والمحاضرات الجادة كم يحضرها، ثم انظر إلى أمسيات الشعراء الشعبيين كم يحضرها، ثم اقطف ثمرة هذه الثقافة لن تجد سوى الحنظل تتجرعه.
- عبدالله النغيثر