شهدتْ صفحاتي الشخصية في عددٍ من مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات حراكًا قويًا خلال الأيام القريبة الماضية، بعد أن كتبتُ بضعَ مشاركات عن الليبرالية والتشدّد الديني.
مئات التعليقات والردود انهمرتْ عليَّ في الفيس بوك، وفي تويتر، وفي أحد المنتديات الليبرالية أيضًا.. فتجاهلتُ أصحابَ الردود البذيئة الذين خرجتْ تعليقاتهم عن آداب الحوار كالعادة؛ ولكنّي لم أستطع تجاهل الكثير من وجهات النظر الجادّة، سواء التي كتبتها أسماء صريحة، أو التي كتبتها أسماء مستعارة.
لم أستطع الرد عليهم في تلك المواقع، ورأيتُ أن تلك الردود الثريّة تستحق منّي التفرّغ لها، ومناقشة أصحابها بصورة تليق برقيّهم وبرصانة ما كتبوه، فقررتُ تخصيص عدد من مقالاتي لهم.
عرضتُ الفكرة على بعض الرفاق، فحفّزني تشجيعهم على المضي قدمًا في فكرة هذه السلسلة؛ التي أبدأ أول حلقاتها اليوم مع الأستاذ القدير علي العيسى، الذي أمطرَ حسابي في «تويتر» بوابل صيّب من التغريدات المُرقّمة المتسلسلة.
والأستاذ علي بن محمد العيسى - لمن لا يعرفه - قامة ثقافية تربوية شامخة، فهو من خريجي دار التوحيد بالطائف، وكان مديرًا للتعليم الابتدائي بوزارة المعارف لسنوات عديدة، وهو أديب أريب له عشرات المؤلفات، منها - مثلاً ً- كتاب (حوار مع الأفكار)، وكتاب (الإبداع شاع أم ضاع)، وكتاب (قبيلة آدم)، وكتاب (الرأي ما ترون)، وكتاب (ليت نثري)، وديوان (حديث الصمت)، وديوان (تعلو التلال بقارب).
وبطبيعة الحال لا يمكن أن أتناول كلَّ ردود الأستاذ علي؛ ولذلك اخترتُ منها عددًا أراه الأهمّ والأجدر بالمناقشة، علمًا بأنّ الكثير من تعليقاته التي لن أوردها لا يحتاج منّي إلى أيِّ تعقيبٍ أصلاً؛ لأنّي ببساطة أتفقُ معه فيها، أو في غالبها ولو نسبيًا على أقلّ تقدير.
قلتُ في أول تغريداتي: «الليبرالية لا تمنع أحداً من التديّن، ولم تكن يوماً ضد أيّ دين كما يروّج البعض. هي ترفض أن تفرضَ على غيرك قناعاتك الدينية فقط. فتأمّلوا جمالها».
فكتبَ الأستاذ الفاضل علي عدّة ردود معقبًا على تغريدتي السابقة - استفتحها بقوله في تغريدتين متتاليتين: «إذا كانت الليبرالية لا تمنع أحدًا من التديّن، فعليها - ليبراليًا - ألاّ ترسم لنا مفهومنا للتديّن حسبما ورد فيه، وتبنيناه واعتنقناه ديناً لا نخرج عنه، والاعتراض على ما فيه، يدين من يدّعي الحرية الليبرالية! ويُعرّي تناقضه وتناقضها في القول والفعل».
والحقيقة أن كلامه هذا جميل جدًا في نظري، وأقفُ له إجلالاً وإكبارًا واحترامًا، فهذا بالضبط هو ما أطالب به منذ زمن بعيد. أنت يا أستاذ علي بهذا الكلام الجميل تنقل للعالم حقيقة الليبرالية النقيّة باختزال بديع، فمن يريد أن يرسم للناس مفاهيم محددة للتديّن، ويصرُّ بعد رسمها لهم على إلزامهم بالسير وفقها، لا يمكن أن يكون ليبراليًا حقيقيًا في رأيي. فالليبرالية - عندي - تقوم على أسسٍ أهمها عدم التدخل في شؤون الآخرين وحرياتهم، وعلى رأسها حرية الاعتقاد والتديّن، فكل إنسان يجب أن يختار معتقداته الدينية بحرية كاملة؛ وفق المفهوم الذي يرتضيه، أو يرسمه لنفسه.
ولكننا قد نقف أمام إشكالية بسيطة هنا، وهي أنّ البعضَ قد يرسم لنفسه مسارًا دينيًا سلبيًا أو مفهومًا خاصًا خطرًا على غيره من الناس، كأن يرى مثلاً - كما يرى الدواعش وأمثالهم وأتباعهم وأذنابهم - أنّ له الحق في إيذاء غيره من الناس والإساءة لهم، إذا كانوا يختلفون عنه في القناعات الدينية وغيرها؛ فهل نترك هذا - وأمثاله - يقول ويفعل ما يحلو له، بحجة أن الليبرالية تقوم على الحرية، فيجب أن لا تمنع أحدًا من قول أو فعل ما يشاء؟!.
لا يا سيدي الكريم، هنا يجب أن نُطبّق قاعدة ذهبية ثمينة كبيرة مهمة ذكرها وأيّدها الكثير من مفكري الليبرالية وغيرهم من العقلاء، وهي: (لا حرية لأعداء الحرية)، فمن يريد إقصاء من يختلف معه أو عنه؛ ومن يريد فرض وصايته على الناس وإجبارهم على الإذعان بالقوة لما يراه صوابًا.. هذا يجب أن يوقف عند حدّه بسلطة القانون، ولا تعارض بين تأييد هذه القاعدة وبين اختيار الليبرالية كمنهج للحياة.
نتوقف هنا، ونواصل مناقشة ردود الأستاذ علي في الجزء القادم بعون الربّ.
- وائل القاسم