-1-
يقول نزار قباني في فاتحة كتابه: «قصتي مع الشعر»:
«إنّ تأمّل الشاعر لما يجري في داخله عملٌ عسير. إنها نفس الصعوبة التي تعترض الوردة حينما تحاول أن تشتمَّ عطرها، والفمَ حين يحاول تقبيلَ نفسه» (ص21) .
ثمّة طاقة جمالية في هذا المقتطف يمكن أن نستثمرها في التعبير عن كلّ شيء نغرق في تفاصيله الصغيرة، حتى نبدو عاجزين عن رؤيته، أو عن استحضاره في صورة كاملة، يكون كلُّ شيء فيها في مكانه الصحيح !
لذلك اخترته ليكون فاتحة لهذه السلسلة من المقالات التي أرصد فيها تجربة العمل في معرض الرياض الدولي للكتاب؛ لكونه – كما بدا لي على الأقلّ – معقّداً بشكلٍ لا يخطر على بال، بسبب تعدّد مجالاته (الإدارية والخدمية والثقافية)، وارتباطه بعدد لا يُحصى من الوحدات والجهات داخل الوزارة وخارجها، وتعرضه لحملة تشويه سنوية على يد خصوم دائمين للفعل الثقافي، وقد أصّل كلَّ هذه الظواهر عدمُ وجود رؤية (واضحة) لهذا النشاط تحدّد للعاملين عليه قبل غيرهم رسالته وقيمه وأهدافه، وتمدّ الطريقَ أمامهم لطرح الأفكار والمبادرات التي تهدف إلى رفع مستواه الإداري والخدمي والثقافي .
ولأنني مؤمن بأهمية هذا النشاط، ولأنني أضعه على رأس قائمة الأنشطة الثقافية التي تشرف على تنفيذها المؤسسة الرسمية، فقد خصّصتُ هذه المقالة لعرض جانبٍ من جوانب تجربتي فيه أو معه بصفتي زائراً دائماً، ومشاركاً في برنامجه الثقافي، وعضواً في لجنته الثقافية في عام 2014م، ثم رئيساً لها وعضواً في لجنته العامة في عام 2016م، إضافة إلى قربي من الزملاء في وكالة الوزارة للشؤون الثقافية وإدارة المعرض، واتصالي الوثيق بالزميل سعد المحارب إبان توليه إدارته في العام الماضي (2016م) .
لقد مكنتني هذه القنوات – مجتمعةً - من التقاط صورة (بانورامية) لطبيعة العمل في المعرض، أحسبها قادرة – في أقلّ أحوالها – على طرح عدد من الأسئلة المهمة، التي تتجاوز حدودَ المعرض لتنفتح على رؤيتنا للفعل الثقافي بوجه عام، وقناعتنا به، ووعينا بأبعاده المختلفة !
-2-
بداية لا يختلف اثنان في محدودية أدوات النشاط الثقافي الذي تشرف عليه وكالة الوزارة للشؤون الثقافية، فهي بوجهٍ عام لا تتجاوز النشاطَ الثقافي والأدبي والنقدي الذي تقوم به الأندية الأدبية، والنشاطَ الفني الذي تقوم به جمعية الثقافة والفنون. وتغلب على هذه الأنشطة الصيغة المنبرية المتمثلة في المحاضرات والندوات والملتقيات على حساب أدوات وصيغ أخرى منبرية وغير منبرية كالنشاط المسرحي والسينمائي على سبيل المثال؛ لحاجة الأخير إلى دعم مادي كبير، ومساندة جادة ودائمة من المؤسسة الرسمية، تكسر حدة الممانعة التي يتعرض لها، وتضفي عليه شرعية ثقافية وقانونية تجعله قادراً على العمل في بيئة لا تحفل بغير الشرطين: الفكري والإبداعي! هذه المحدودية ألقت ظلالَها على المشهد الثقافي فجاء محدوداً على منوالها؛ ويؤسفني أن أقول – تبعاً لما سبق - إنّ مشهدنا الثقافي لا يحظى بالتفاتة من الخارج إلا مرتين في كلّ عام، أولاهما: في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، وثانيتهما: في معرض الرياض الدولي للكتاب، وفيما بين هذين الحدثين فعلٌ ثقافي لا بأس به، لكنه إما مغلق (كما في حالة المؤتمرات العلمية التي تنظمها الجامعات) وإما محدود الأثر (كما في حالة الملتقيات التي تقيمها الأندية الأدبية)، وإما معزول اختياراً أو اضطراراً (كما في حالة المهرجانات الفنية التي تقيمها جمعية الثقافة والفنون)، وجميع هذه الأنشطة غارقة لأسباب مادية ومعنوية في الرتابة والتكرار، وعاجزة عن الانفتاح على الجمهور، فضلاً على المساهمة الفاعلة في صياغة عقله ووجدانه . من هنا اكتسب معرضُ الرياض الدولي للكتاب قيمةً خاصةً، بدا بها مختلفاً عن هذه الأنشطة في المنطلقات والسياقات وجملة الأهداف التي يستطيع تحقيقها، ومختلفاً عنها أيضاً في قدرته الفائقة على الانفتاح على الجمهور المحلي بجميع أطيافه، إضافة إلى انفتاحه الكبير على الوسط (النخبوي) الخليجي والعربي؛ الأمر الذي يجعل عملية تعاهده وتطويره فرصة من أهمّ الفرص في مشهدنا الثقافي . (وللمقالة بقية).
- د. خالد الرفاعي