د.خالد بن صالح المنيف
كتب الأديب المؤرخ الروماني (بلو تارخ) عن شخص كان في حضرة جلساء له ولكنه وعلى غير عادته بدت عليه أمارات قلق وسيماء اضطراب وحدة طبع مستغربة!
وقد أثارت تصرفاته حفيظة الجلساء؛ فتجرأ أحدهم أمام الجميع وانتقد هذا السلوك المستهجن من هذا الرجل! فكيف تصرف وبماذا رد على هذا الانتقاد؟
طلب صاحبنا من الحضور التأمل في حذائه الذي كان ينتعله, وما كان هذا الحذاء الذي كان ينتعله إلا جديداً لامعاً نظيفاً أنيقاً!
وسألهم: ما تقولون في هذا الحذاء؟
فقالوا: حسن الصنع، غالي الثمن, جيد النوع، أجمل ما يكون عليه حذاء من أناقة تجذب ولون يعجب وشكل يطلب ونوع يرتجى!
ابتسم بألم ونظر إليهم نظرة الموجوع، وقال: لكن أحداً منكم لم يجرب انتعال هذا الحذاء التعيس! فقد أبهركم منظره حيث اكتفيتم بمعاينة من الخارج!
وفاتكم أن تعرفوا أنه يضايق قدمي أيما مضايقة، ويقرصها أيما قرص حتى أدماها!
وهذا ما جعلني على تلك الحالة التي أنكرتموها علي!
والحياة أشبه ما تكون بهذا الحذاء في أحوال كثيرة!
كم نحن بحاجة في ألا نتعجل بالحكم وألا نقسو في انتقاد على من ننكر بعض تصرفاتهم؛ فلربما كانت الحياة تقرضهم والليالي تعضهم بأنيابها والمثل العربي يقول: لأمر ما جدع قصير أنفه!
فلو علمت أنه الجريح المكلوم المضطر لسامحت زلته وتعاميت عن هفوته ورحمت ضعفه وغفرت سوء تدبيره! وأدركت أن الإبل ما تورد هكذا!
ربما تبدو حياة بعض من حولنا زاهية مشرقة رائقة بسبب لقطات سريعة أخذناها من حياتهم!
ونعتقد بل أحيانا نجزم بأن هولاء يعيشون حياة أهل الجنة لا نصب ولا وصب ولا هم وحزن!
وفات علينا أنهم بشر يصيبهم ما يصيب ساكني الأرض وقوانين الحياة تطبق عليهم وعلى غيرهم!
وللدكتور الأديب مصطفى محمود وجهة نظر تدعم هذا الرأي يقول فيها: نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة على الرغم ما يبدو في الظاهر من بعض الفوارق- بالرغم من غنى الأغنياء وفقر الفقراء فمحصولهم النهائي من السعادة والشقاء الدنيوي متقارب؛ فالله يأخذ بقدر ما يعطي ويعوض بقدر ما يحرم وييسر بقدر ما يعسر.. ولو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه ولرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلال الموازين الظاهرية.. ولما شعر بحسد ولا بحقد ولا بزهو ولا بغرور، إنما هذه القصور والجواهر والحلي واللآلئ مجرد ديكور خارجي من ورق اللعب.. وفي داخل القلوب التي ترقد فيها تسكن الحسرات والآهات الملتاعة.
يوم من الأيام راسلني أحدهم في أحد موقع التواصل الاجتماعي وكنت خارج المملكة وقال في رسالته وبشفافية عجيبة: إني أحسدك على المكان الجميل الذي سافرت إليه!
فوقعت عبارته علي موقع الدهشة الكبيرة!
فأولاً يجب على البشر أن يتمنوا الخير لمن حولهم حتى تسكن أرواحهم وتطمئن نفوسهم! وهل في السفر ما يوجب الحسد!
وثانيا وهذا أمر خفى على هذا الشخص وخفى على البشر كلهم حتى أقرب الناس لي؛ إنني في تلك اللحظة التي قرأت فيها رسالته كنت أتقلب ألماً من علة أصبت بها،أبكتني وجعاً وأسهرتني تعباً!
وكم من مرة كنت أبتسم للناس طلق المحيا بارق الثغر وقد اعتلج هم كبير في صدري وكان قلبي حينها مركضاً لكمد باطن وحزن خفي!
فالبعض ربما يغبط أحدهم على سيارته ولم يقف على تلك الأوجاع الرهيبة التي يعاني منها في فقرات ظهره!
والبعض يحكم من خلال ذلك القصر الباذخ وما درى أن صاحبه يعاشر امرأة تعشق النكد وتهوى تشويه الجمال!
والبعض يحكم على إحداهن من ملبسها أو ساعتها وما علموا أن لديها زوجاً سليط اللسان بذيء الأخلاق عسر الطبع!
والبعض يغبط أحدهم على منصب يشغله وما علموا مقدار التعب والجهد في هذا المنصب وما فيه من وجع رأس وعذاب روح!
كم انخدعنا في أشخاص كنا نظن أنهم سعداء، منبهرون بابتسامة مرسومة على شفاههم، وأناقة بادية عليهم..
لكننا عندما سبرنا أغوارهم وجلسنا واستمعنا إليهم وجدنا حياتهم أتعس بكثير مما نظن، وأنهم مساكين حقاً!
فلا يخدعنك ضحكة ضاحك، ولا مظاهر كاذبة!
وعش في الحياة ناظراً دائماً للجوهر لا للمظهر!
ولا تحكم على أحد قبل أن تسبر أغواره جيداً!
فأحوال البعض كحال الديك الراقص الذي يظن من يراه أنه يرقص رقصة الخيلاء بنشوة طرب وهزة شجن بعرفه الجميل وريشه اللامع وهو في حقيقة أمره يرقص بفعل سكين قطعت وريده واحتزت عنقه فإذا بها رقصة للموت لا رقصة للطرب! وقد أجاد المتنبي الوصف عندما قال:
لا تحسبوا رقصي بينكم طربا
فالطير يرقص مذبوحا من الألم
وقال فولتير: لا تنخدع بضحكهم فإنهم لا يضحون ابتهاجاً وإنما.. تفادياً للانتحار!
إن سعادتنا لا تعود لتفاوت أحوالنا وظروفنا بل لتباين مواقفنا من الأحداث فهناك أرواح تتسامى على الألم وتعلو على الوجع وترى فيها جوائز ثمينة من ثواب كبير وخبرة ثرية، أرواح مشرقة ترى عدل الرحمن ورحمته في كل ما ينالها وفي الضفة الثانية أرواح مظلمة تجتر أوجاعها وتختنق بشقائها وتترجم هذا بأحقاد قذرة وحسد قاتل!
ومضة قلم
عندما تستيقظُ صباحًا وأنت تتنفس لا شيء -صدِّقني- يستحقُّ التعبَ، والألمَ، أو حتى التفكير!