(1)
لطالما حاولت الهروب من حقيقة أنني أبكي بسرعة، بسرعة غريبة تربكني أنا شخصيًا وتربك من يراني أو يجلس إلى جواري أمام مشهد معبّر في فيلم أو عند موقف عابر، ولكنني ومنذ خمسة أيام متتالية، أحاول جهدي استدعاء الدموع، أحاول أن أجرح بأظافري هذه الصخرتين التي أبصر بهما لعلهما تتفجران بالدموع وتخرجان ما انحبس في جوفهما، ولا شيء هنالك سوى الأجفان الباردة، أحاول أن أخدش هذا القلب الذي طال عواؤه ليصبّ قطرات من دم لعلها تريحني، ولكن .. لقد انتهت الدماء والدموع يا حلب!
(2)
ها قد أتاك نبأ الأيام المالحة، وداهمتك الليالي المسودّة الكالحة، ولم يبق شيء في حوزتنا نعبر به عن مشاعرنا المكبوتة ونحن نرى أكوام الجثث المتفسخة التي تملأ شوارع حلب، ماتت بشرف وبقهر لا سبيل للكلمات أن تصفه أو تفصح عن مكنونه، منجل الموت الحادّ يخطف كل أحد هناك، كلّ أحد، حتى تلك العجوز التي تحاول أن تختبئ عن جلجلة الصواريخ وتلوذ في بيت مهدوم مثقوب الجدران ومتداعي الأركان لتعدّ طعامًا على حصير بال لرضيعها الباكي لم يغفل جسدها الرصاص، وطفلها إلى جانبها يرسل صرخات موجعة تنبئ عن حرقة الجوع ولكن بعد ماذا؟ بعدما حولت المدفعيّة الأم إلى أشلاء وقطع متناثرة؟ بعدما تلطخت جدران الغرفة بخيوط الدم؟ إنني أتساءل هل من الممكن أن نوقف المؤتمرات السياسيّة العالميّة اللعينة لنفكر في الأطفال المدفونين تحت الركام والحجارة وكتل الحديد الثقيلة؟ هل من الممكن أن نقف دقيقة لنفكر بآلام فتاة كانت تسهر وتراقب في فرح ثوب زفافها تنتظر الفرح ولكن الحرب اختطفت أحلامها وذبحت حبيبها؟ هل هو صعب علينا أن نتوقف عن الثرثرة وعن متابعة نشرات الأخبار التي تتلو علينا أهوال الحرب ونتحرك فعلياً للنجدة بأي طريقة مشروعة للنجدة؟
(3)
لقد بثّ كثير من المفكرين الراحلين أشجانهم في كتبهم واعترفوا بأنهم ينتمون لجيل الرهانات الخاسرة، حسنًا، ماذا نقول عن أنفسنا إذن؟ نحن الجيل الشاب الذي غطست أقدامه بوحل من الدماء المتخثرة، وغرقت أحلامه في بركة من الهموم، نحن الذين ننادي بحناجر تتزاحم فيها سكاكين القهر وكتمت أصواتنا فلم يسمعنا أحد؟ ومن سيسمعنا ونحن في قاع البئر المظلمة وإذا رفعنا رؤوسنا إلى الأعلى فتلك أضواء القذائف الملتهبة، وإن أبصرنا نوراً فذاك نور الحرائق المندلعة، ومن يغيثك وليس في الجبّ أحدًا سواك؟ من يرعى لنا أحلامنا المطعونة ويرمم أشواقنا المتكسّرة ويعيد أصواتنا المهدورة؟ لقد زرتهم العام الفائت في مخيماتهم ورأيتهم بعينيّ وحدثوني عن برودة الغربة وألآم الهجرة وعن الوجع الناجم عن ترك الأهل والأحبة، قالوا لي إنهم نزحوا عن ديارهم لأنهم عصاة الأمر، لم يخضعوا للمغتصبين، لأنهم خرجوا للشوارع حفاةً من شهوة الخلود وجشع الأغنياء، يستقبلون الدبابات بالصدور المكشوفة للريح والرصاص وبالعِصيّ النحيلة القابلة للكسر بسهولة، أخرجوهم لأنهم يرمون المروحيات ببقايا الخبز وبفتات الحجارة، وذبحوهم لأنهم رفضوا الشرائع المسمومة ولأنهم قاوموا الجنود المتعطشين لرائحة حرق الجسد وفرم اللحم البريء
(4)
سأعترف أن لديّ تصوراً طفولياً لازمني طويلاً في مرحلة مبكرة، وهو أن عصابةً ممن يحكمون العالم يسيرون متخفين في الظلمة وممسكين ببوصلة فاقدة لذاكرة المكان تقودهم لغير الاتجاه الذي يرغبون بالوصول إليه، ونحن نُساق خلفهم بلا حول ولا قوة، وها أنا ذا أؤمن بهذا الآن فعلاً، فهل أنا مخطئ؟
إذن من يخبرني إلى أين نحن نمضي؟ هل أنا محق عندما أشعر أننا نسير في الدرب الذي يأخذنا لعكس الوجهة المطلوبة؟ الآن، وبحالة تشبه اليأس ومشحونة بالغضب، أستحضر مقولة دستويفكسي الخالدة «أخشى ألا أكون جديرًا بالألم» أنا خائف فعلاً ألا أكون ممن يستحقون حتى الألم لما يحصل داخل أسوار حلب، ولا أدري كيف أكتب عنها وأنا بعيد عن ساحة المعركة، في شقتي الصغيرة أحفظ نفسي من صقيع البرد وأرتدي قميصاً كُتب عليه «سجّل أنا عربي، ولون الشعر فحمي ولون العين بني «وكم عشتُ كارهاً للمعاني الميتة والمرددة، ولكنني لا أريد هذه اللحظة سوى التجرد من كل شيء وأن أرمي هذا القميص وما يحمل من شعارات بالقمامة. ولولا أنه من طفلة محببة لقلبي زارتني في العيادة وأعطتني إياه لفعلت ذلك دون تردد، لقد رحمك الله يا درويش بأن مت بمرضك ولم يمد الله في عمرك لأنك ستموت من الكمد، وأنتِ يا أمي، يا أغلى عزاءات القلب وأجمل أحزان العمر، في نزهتك الأبديّة بجنات الله في دروب الماوراء البعيدة، لقد هجرتِ طفلك باكرًا دون أن ترشديه، كيف أخبئ وجهي عن هذا العالم المخيف ؟
- د. معتصم حمد الهقاص