(1)
حدث ذلك عندما قدّمتُ أحد الأساتذة المختصين بعلوم الشريعة بكلمة مختصرة ليقدم لنا محاضرة يشرح فيها بعض المسائل الطبية وعلاقتها بالأحكام الفقهية.
كانت المحاضرة مقامة على هامش المؤتمر الطبي الثاني لكلية طب الأسنان بجامعة القصيم. ولما مضت سحابة النهار، طلبني في آخر اليوم أحد ملاك القنوات الفضائية في منطقة القصيم، وشرع يسأل عن الاسم والوظيفة والعمر، فرددت له ما يريد من الأجوبة برضا وحبور، فبادرني بطلب الانضمام إليهم في القناة وعرض فرصة للعمل تعد جيدة لفتى في الواحدة والعشرين من العمر، أضاف إلى العرض حرية اختيار أوقات العمل لعلمه بضغط الدراسة الطبية.
وقد غمر الفتى شعور دافئ بالاعتزاز مع غبطة عميقة بدأت تنبعث من أعماقه. غير أن مالك القناة خيّب ظنه وحطّم فرحته عندما كشف عن سبب اختياره، التي لم تكن شيئًا سوى الوسامة والقسامة و»اللوك المميز»، بحسب تعبيره. ثم افترقنا وأضمرت شعورًا شديدًا بالخيبة، لأن سبب الاختيار لم يكن الخلفية الثقافية كما كنت أتوهم، أو قلت لعله رأى تميزًا في الشخصية أو حتى شدّته الفصاحة التي عشت حالما بها، لكنه لم يكترث بشيء من هذا، وعللته بالوصل بعدما عزمت على تجاهله وتجاهل عرضه.
(2)
كانت الحادثة الثانية بعدها بأربع سنوات، قبل شهور قليلة في إسطنبول عندما جمعني مؤتمر فور شباب العالمي السابع مصادفة بأحد كبار الإعلاميين في بلدة عربية، ودار ذات الحديث الذي سمعه الفتى قبل أعوام، نفسه تمامًا حتى كأنه هو، غير أن العرض هذه المرة كان أقوى وأشهى، وقد أظهر صاحب المركز الإعلامي اهتمام شديد بمن أمامه، وأطلق لسانه بأسئلة متواصلة حول الجسد واتساقه وكيف شكله ومدى رشاقته وأهميته بهذا المجال، وبسط أمامي الآمال العريضة التي أدنى ما فيها المال والشهرة، ولكم كانت الخيبة عظيمة والقسوة مريرة هذه المرة، لأنها وللمرة الثانية يصرف النظر عن تحصيل الفتى العلمي وشغفه بمشروعه الثقافي، لينصب الاهتمام فقط على الشكل الخارجي الذي لم نتعب في تحصيله ولم نجتهد في كسبه. قفلت عائدًا لقاعة المحاضرات غير حافل بعرضه، كما لم أحفل بمن سبقه.
(3)
الأرضية المشتركة لكلا الحادثتين والفكرة المحورية عند النموذج الأول كما الثاني هي الرؤية الأداتيّة للإِنسان، والنظر إليه باعتباره خامة استعمالية لديها قابلية التبدّل والتشكّل متى توفرت لها الوسائل والأدوات. ونحن نقف مناوئين لهذا الموقف، ونتحرج منه أشدّ الحرج. لأنه يخفي أفكارًا فاسدة معادية للإنسان لا تتضح لنا في النظرة البديهية الأولى، وهي أفكار تتصل في جوهرها بقيم السوق العالمية الاستهلاكية التي تروم جعل الإنسان إنسانًا واحدًا بشكله ولونه ولبسه وذوقه، وتستند إلى آلة إعلامية ضخمة تُجري تروسها على رؤوس شركات عالمية كبيرة تحقق لها أهدافها.
وهذه الشركات تعقد بدورها آمالها الاقتصادية والسياسية على أهداف تجعل الإنسان سلعة مستخدمة مغيّبة غير واعية ولا مدركة. فالمصلحة متبادلة والتغذية مشتركة، والضحية ليس من يلقي بالشباك ولكن من يلتقطها بفمه. إن صعود معدلات الكآبة والقلق المحموم المصاحب للهاجس المرضي بالجسد يعني دخولنا في حقبة زمنية تتميز بإعلاء قيمة الصورة والبرواز، واللحم والشحم، وتهشّم القيم الروحية وتحطمها على الضفة الأخرى، أو تشارك بجعل ارتباطها، بأفضل الأحوال، بحالة الجسد. ولا يعني هذا إلا التغييب القهري للذات الحقيقية في سبيل إبراز الجسد فقط باعتباره الشيء الوحيد القابل للاستعمال و(التشييء). في لفتة ذكية من عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان أشار في كتابه المشهور «الحياة السائلة» إلى الأمر ذاته، يقول «إن الحياة السائلة، حياة استهلاكية، إنها تجعل من العالم بكل أحيائه وجماداته موضوعات للاستهلاك» بما في ذلك الإنسان طبعًا.
(5)
الدور والمراكز الإعلامية العالمية والمحلية ليست استثناءً، فالطوفان الذي يجتاح العالم قد بلّلها حتى أثر على سياستها في اختيار عناصرها، ومن منهم يتنبه لهذا أو يرفضه يتم تجاوزه إلى أحد يقدم قربانه - جسده فداء للهدف الإعلامي الذي غالبًا لا يتفق ومشروعه الفكري الخاص، ولعلنا نعرف الآن لماذا بدأت تتشابه أشكال وأحوال من يقفون أمامنا على شاشات التلفزة في الليل والنهار، وربما رددوا على مسامعنا ضرورة التعرف على بهجة الحرية التي لم يذوقوا منها شيئًا. إن الإنسان الحديث يعيش حالة مكثفة وشديدة من الحصار المستمر، يحاصره الوهم المتمثل في قيم السوق الاستهلاكية، ويسكن عالمًا لا يكترث كثيرًا بعقيدته بل بصورة جسده، ولا يعقد الرهان على مشروعه الإنساني ولكن على بطاقته الائتمانية. والخروج من هذا المأزق لن يكون إلا بدفع الوهم ورفع صوت الوعي وإيضاح أن الجسد لا يمثل القيمة النهائية للإنسان المركب وهو أبعد من أن يصهر داخل مشروع مؤقت لخدمة مؤسسة أهدافها مؤقتة في عيش مؤقت.
- د. معتصم حمد الهقاص