ختمنا الجزء السابق بالحديث عن عدد من العقائد في الحضارات العربية القديمة، ونواصل اليوم الحديث عن بعض المسائل ذات العلاقة.
فإذا ذهبنا إلى موضوع (خلق الإنسان) على سبيل المثال، فسنجد الكثير من الميثولوجيات الأسطورية المختلفة تروي قصصًا مُشابهة لقصة خلق الإنسان من الطين الواردة في كثير من الأديان.. ففي الفكر البابلي نجد أن الإنسان خُلق من طين بواسطة الإله «مردوخ»، وفي الفكر المصري أيضًا بواسطة الإله «خنوم»، وكذلك ورد عند الإغريق أن الإله «بروميثيوس» خلق الإنسان بشكل مشابه، وهذا ما يتكرر في العبرانية اليهودية بواسطة الإله «يهوة»، إلى آخر تلك الحكايات والأساطير لمجتمعات وأديان العالم المختلفة.
وما يهمني هنا هو أنني بالتتبع وجدتُ أن كلَّ هذه الأساطير مصدرها واحد، وهو المصدر السومري الرافدي، فالأصل الأول لهذه الفكرة -كما قرر غير واحد من الباحثين- هو في نص من الأسطورة السومرية التي يقول فيها الإله «أنكي» لأمه «نمو» ما يلي:
«امزجي لب الطين بمياه الأعماق.. وسيقوم الإلهيون المَهرَة بتكثيف الطين وعجنه، فقومي أنتِ يا أمّاه، ببناء الأعضاء والجوارح.. وستعملُ معكِ «ننماخ» الإلهة الأم يدًا بيد، وستقف جنبك -لمساعدتك أثناء التكوين- كلُّ ربات الولادة.. ولسوف تختارين للمولود الجديد يا أماه مصيره، وستُعَلِّقُ «ننماخ» عليه شكل وصورة الآلِهة.. إنه الإنسان يا أمّاه».
وقد اختلفَ العربُ القدماءُ -نسبيًا - في شعائرهم وطقوسهم العقائدية الدينية عن الأديان الأخرى قبل السماوية، ذات الصبغة الطوطمية، التي كانت تنصرف إلى عبادة مظاهر الطبيعة من شموس وأفلاك ونار وحيوانات وما شابه، حيث كانت المجتمعات في الحضارات العربية الموغلة في القدم تصنع آلهتها وتنزلها من برجها (اللامادي) إلى التجسيد الأرضي المتمثل في صورة (الألوهية الإنسانية) أو البشرية، وهذا ما جعل (مركزية الدين) تظهر بوضوح -كما أوضحنا سابقاً- في الشأنين السياسي والاجتماعي.
كما سادت في تلك الحضارات القديمة ممارسات وطقوس دينية فلسفية، كاحتفال السومريين في رأس كلِّ سنة بآلهتهم وبمظاهر وعناصر الطبيعة، حيث كانوا يظنون أن رأس السنة هو عيد سنوي لتاريخ بداية الوجود، الذي جاء كنتيجة لمضاجعة الإله «تموز» للإلهة «عشتار». وبناء عليه وكطريقتهم دائمًا في إنزال الآلهة إلى الأرض، كان ملكهم يتزوج من خادمة المعبد باعتبارهما ممثلين للآلهة في المجتمع.
واتفق عدد من الباحثين في (السومريات) على أن السومريين كانوا يعتبرون أنفسهم أعلى منزلة من غيرهم؛ وأن مجتمعهم مجتمعٌ متميّز ومقدّس ومتصل بالآلهة اتصالا لم تحظ به بقية الشعوب والمجتمعات.. وفي هذا يقول عالم الآثار «صمويل كريمر»: «كان السومريون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم (شعب مختار)، وأنهم مجتمع خاص ومقدّس نوعاً ما، وعلى اتصال بالآلهة (الأناناكي)، وأنهم أكثر خصوصية من بقية الجنس البشري».
والحقيقة أن فكرة (شعب الله المختار)، الواردة في اليهودية وغيرها، ليست موجودة عند السومريين وحدهم، وإنما هي فكرة تكرَّرَتْ في كثير من عقائد الشرق القديم، ومن ذلك مثلا ما يراه «البراهمة» الهنود، من أنهم مقدّسون ومفضّلون على غيرهم من البشر، كما ذكرتُ في سلسلتي السابقة الموسومة بـ «بنود حول فلسفات الهنود».
ويتفق المعتقد الديني عند البابليين أيضًا مع بعض المعتقدات الدينية الآشورية، ومن ذلك مثلاً أن مفهوم الإله عندهم جميعاً يقوم على تصوّر ثلاثيّ، أركانه هي: 1- الخلق. 2- الحساب. 3- الحماية.. أي أنهم يتفقون على وجود آلهة خاصة بموضوع خلق العالم بكل ما فيه؛ ويتفقون أيضا في وجود آلهة أخرى مهمتها حماية هذا العالم؛ بالإضافة إلى وجود آلهة مختصة بحساب البشر ثوابًا وعقابا.
- وائل القاسم