أمل بنت فهد
حين نظن أننا كلنا خُبراء.. وحين نعتقد أن لنا صلاحية إبداء الرأي والمشورة في شأن سين من الناس.. وحين نقدم خبراتنا على أنها منتهى ما توصلت إليه التجارب النيرة.. وحين نخترق خصوصيته.. ونقتحم أسراره.. ونطرح أسئلة شخصية يستحي منها كل ما يسمى أخلاق.. حين نتبجح بأننا العارفون ببواطن الأمور أكثر من صاحب القضية نفسه.. وأخيراً نختمها أو نبدأها بوصف خذها مني نصيحة.. بداعي الخوف عليك.. أو بذريعة المحبة أو مواثيق الصداقة.. فكل ذلك أبعد ما يكون عن النصيحة.
فالنصيحة بالسياق أعلاه مجرد فضول و»لقافة» ولزمة سلوكية يعاني منها الكثير.. وفيها ادعاء المعرفة.. وفيها استعلاء.. وكلها على بعضها حرفياً لا تخرج عن قلة الأدب.. فماذا ننتظر من صاحبنا الذي جعلنا حياته الخاصة موضع النقاش؟
قد يضطر بداعي الأدب والضعف أحياناً.. أن يشكرك ويمضي محملاً بثقل نصائحك التي لم تستطع أنت تطبيقها في حياتك.. لأن الناصح الملقوف غالباً يحكي عن أماني خياله المشبع بالمثالية.. والبطولات الوهمية.. وقدراته الفذة على تحدي المستحيل.
النصيحة دون طلب فيها إهانة لعقل صاحبك.. وفيها تسفيه لتجاربه.. وتجهيل لمعرفته.. كأنك تقول بكل تهذيب: أنت فاشل وجاهل! وأنا المنقذ وخلاصك من جحيم الخسارة.. مع أنه لو طلب منك دعما ماديا.. لهربت وتهربت.. شتان يا فضولي بين القول والفعل.. وحين يكون التنظير مبدأ.. تضيع الأفعال في بحر الخذلان.
وإن كان صاحبنا قد طفح صبره فإنه سيقول لك: ما شأنك.. وربما يعدد عليك قصص فشلك وذنوبك وأخطائك.. وليته يفعل.. حتى تغرق في بحر الإحراج.. وتفكر في إصلاح ذاتك وحياتك.. قبل أن تلبس قبعة الخبير.. وتتفلسف دون حياء.
ولتفهم متى تكون مؤتمناً فعلاً على قول الحقيقة.. حين تُطلب منك.. أكرر حين تُطلب منك.. لكن حين تتطوع بها.. فأنت خسران.. وللتطوع أبواب تأخذ منها الأجر والمثوبة وليست في تحجيم سلوكيات الآخر.. وادعاء الفضيلة.. نعم قد لا تقولها صراحة أنك فاضل أكثر منه.. لكنك قلتها ضمنياً حين أقحمت نفسك في شأنه.
لزمة النصيحة تفتك بالعلاقات.. وتصنيف خفي بين ملائكة وشياطين.. ناجحين وفاشلين.. أذكياء وأغبياء.
ماذا لو تعلمنا أن نتحدث في الشأن العام.. ونفكر بصوت واحد في مصلحة عامة.. ورصدنا الظواهر التي تعيق المجتمع.. وتركنا التغلغل في أمور ليست من شأن أحد عدا صاحبها.. متى نعرف أن التدخل مرهون بحجم الضرر على الآخرين.. متى نفهم حدود العلاقات.. متى نحترم صمت الفرد.. وحزنه.. وخطأه.. وعثرته.. حتى لو شهدناها.. يمكننا بكل أدب أن نغض الطرف كأننا لم نر شيئاً!
ما ضرنا لو تركنا للآخر حرية الحديث أو السكوت.. ما ضرنا لو فهمنا أن الإِنسان مسؤول عن نفسه.. ما ضرنا لو جربنا التعامل مع تاريخ الآخر على أنه تاريخه الخاص جداً بكل ما فيه!