د. محمد بن عبد الله ال زلفة
لم تفتأ بلادنا منذ قيام تكوينها واكتمال وحدتها تتعرض لحملات مغرضة من قبل من نصبوا لها العداء، لا لشيء إلا لكونها أقامت أكبر وحدة سياسية على أرض جزيرة العرب التي كانت قبل قيام هذه الوحدة المباركة مقسمة ومفككة وتسودها الفوضى والاضطرابات، ويعيش أهلها في أسوأ الظروف الاقتصادية والصحية والتعليمية حيث لا تعرف إلا الجهل والفقر والمرض.
بنت بلادنا وحدتها بسواعد أبنائها وبقدراتهم الذاتية دون معونة أو مساعدة أو منه من أحد لتخلق بقوة العزيمة وصدق الإرادة والإيمان المطلق بتحقيق الهدف مهما كانت التضحيات.
ولكن خصوم هذه الدولة ما كان يرضيهم أن تقوم لها قائمة وعملوا كل أنواع التآمر والتدخل والاستعداء للحيلولة دون قيام هذا الكيان الوحدوي الكبير، ولكن باءت كل محاولاتهم للفشل أمام صلابة القائد المؤسس الملك عبد العزيز طيب الله ثراه وإخلاص جيل التأسيس الذين بذلوا كل الغالي والرخيص وأرووا كل شبر من تراب هذا الوطن بدمائهم الزكية لكي يقيموا لنا هذه الوحدة العظيمة، وبكل أسف أن العداء لهذه البلاد لايزال متجذراً حتى اليوم في نفوس بعض من ناصبوها العداء منذ الفترات المبكرة لتكوينها لا لشيء إلا حسداً من عند أنفسهم.
كانوا ضد أن تكون لبلادنا حدود آمنة وكانوا ضد أن يبنوا علاقة حسن جوار مع دولة فتية تنشد الأمن والاستقرار لها ولجيرانها والعزة والمنعة للأمتين العربية والإسلامية فقد شاءت القدرة الإلهية أن تكون هذه الدولة عربية خالصة ففيها هبط الوحي ومنها انبعثت أنوار الدعوة الإسلامية وحمل أبناء هذه الأرض رسالة السماء إلى كل أنحاء الأرض.
وورثت هذه الدولة خدمة المقدسات الإسلامية في مكة والمدينة التي يؤمها المسلمين من كل أركان المعمورة وأمنت لهم طرق الحج والعمرة وهي في ما قبل قيام هذه الدولة غير آمنة.
عانت المملكة مع جيرانها عنتاً كبيراً وخاصة مع اليمن على مدى ما يقرب من مائة سنة حيث استخدم اليمن كمنصة إطلاق لأعداء المملكة حتى من غير اليمنيين وبسبب هذا أقحمت المملكة في حروب ما كانت تريدها ولكن حينما تجد نفسها مضطرة كان النصر دائماً حليفها ولم يجن طلبة الحروب إلا كل أنواع الخسران.
بعد هذه المقدمة أقدم للقارئ الكريم رؤية لآخر فصل من علاقة الملك عبد العزيز مع ملك اليمن الإمام يحيى حميد الدين رحمهما الله جميعاً وهو مقدمة لكتاب يحكي قصة العلاقة بين الملكين بكل تفاصيلها أعادت دار بلاد العرب للنشر نشره بعد أن أصبح في عداد الكتب النادرة وغير الممكن الحصول عليه، بهدف جعل أبناء الجيل الجديد في المملكة وحتى في اليمن والوطن العربي على بينته بأن بلادنا لم تكن يوماً معتدية ولكنها في الوقت نفسه لن تفرط في شبر واحد من أرضها ولن تسمح لأحد أن يدنس ذرة من ترابها.
خاض الملك عبدالعزيز ثلاثة عقود ونيف من الحروب الطاحنة في سبيل توحيد بلاده المملكة العربية السعودية، كما خاض حروباً سياسيةً لا تقل شراسة ولا سهولة من الحروب العسكرية التي انتهت بتوحيد المملكة في نهاية تلك السلسلة الطويلة من الحروب.
وما أقصد بالحروب السياسية تتمثل في الجهد المضني من سلسلة طويلة من المفاوضات مع أطراف عدة من أجل تحديد الحدود الثابتة والدائمة التي أصبحت تتكون منها الحدود السياسية للمملكة العربية السعودية.
هذا الجانب من الحرب السياسية هو محور هذا الكتاب الوثائقي الذي نقدمه للقارئ السعودي وغير السعودي، حيث إن هذا الجانب لم يحظ بالاهتمام من قبل الباحثين والقراء كما حظيت به الحروب العسكرية، وظل هذا الموضوع مكان نقاش بين السياسيين والمثقفين السعوديين، كل ما أثيرت قضية حدودية بين المملكة وجيرانها، ولعل أهمها وآخرها ذلك الحديث الطويل عن قضية الحدود السعودية اليمنية التي أشغلت الرأي العام السعودي والعربي والدولي في السنوات الأخيرة، وزاد من ارتفاع حدة النقاش حول هذه القضية الإعلام الحديث بوسائطه المختلفة وبتوجهاته المختلفة وفي معظم ما كان يبثه ذلك الإعلام، وخاصة الإعلام العربي المسيس والإعلام العالمي المضلل الذي كان يقدم صورة الصراع بين المملكة واليمن حول قضية الحدود وكأن المملكة دولة معتدية استلبت من اليمن أجزاء من أرضه، وصدق هذا الإعلام المسيس شرائح كبرى من الجماهير العربية المعروفة بضحالة معرفتها وجهلها بواقع الأمر، ولكنها لجهالتها وكعادتها تصبح مصطفة إلى جانب أصحاب الأهواء، ومنهم الكثير من ساسة العرب ومثقفيهم الذين يسيرون في ركاب ما تمليه إرادة وأهواء الساسة العرب لدرجة أن الكثير من زعماء العرب وخاصة ما يسمى بالثوريين منهم والمتحزبين يرفعون شعارات الوحدة العربية، ويلحقون اللائمة دائما بقرارات سايكس بيكو التي تم بموجبها تقسيم العالم العربي إلى دول ودويلات، ووضعوا حدوداً سياسيةً مصطنعة فرقوا بموجبها وحدة أراضي البلاد العربية إلا أن أصحاب هذه الشعارات هم من وظفوا وسائل إعلامهم، واشتروا ضمائر كتَّاب ومثقفي العالم العربي للحديث عن تكريس قيام وحدات سياسية تعمل على الانفصال عن جسم بلاد عربية موحدة مثل قضية الصحراء المغربية والإستماته من أجل فصلها عن جسمها الأم المملكة المغربية، ومثل ما كانوا يقومون به من تأجيج مشاعر أخوتنا في اليمن تجاه المملكة العربية السعودية بحجة أن المملكة استولت على أجزاء من اليمن، وهذه ما هي إلا محض افتراءات.
ولم نسمع أحداً من هؤلاء المؤججين، وغالبيتهم من القوميين العرب وهم فيما يدعون دعاة وحدة العرب أرضاً وشعوباً بأن أشادوا بالدور العظيم الذي قام به المغفور له -إن شاء الله -الملك عبدالعزيز في إقامة أكبر وحدة عربية عرفها تاريخنا العربي الحديث والمعاصر إذا كانوا حقاً دعاة وحدة ولكنهم لم يكونوا إلا حاملي شعارات فارغة.
أعود إلى الحرب السياسية التي خاضها الملك عبدالعزيز من أجل إقامة حدود ثابتة ودائمة للمملكة العربية السعودية، وأحب أن أشير إلى أن الدولتين السعوديتين الأولى والثانية لم تولي قضية الحدود أي أهمية، بل كانت الدولة السعودية الأولى حريصة في مد نفوذها ليشمل العديد من المناطق خارج منطقة نجد والذي شمل معظم أنحاء الجزيرة العربية لغرض نشر الدعوة الإصلاحية وبالعودة إلى الإسلام الصحيح، كان لما قامت به أثر بالغ في نفوس من آمن بمبادئ تلك الدعوة، وظلت بها تلك النفوس عامرة حتى بعد سقوط الدولة وانحسار نفوذها الذي لم يتجاوز منطقة نجد إبان الدولة السعودية الثانية.
وعندما عاد الملك عبدالعزيز في مطلع القرن العشرين 1902م ليعيد إحياء وقيام دولة كان يحمل مشروعاً هدفه قيام دولة كبيرة موحدة تشمل معظم أنحاء الجزيرة العربية مستلهماً تاريخ الدولة السعودية الأولى، ولكن بأسلوب سياسي عصري يتناسب مع ظروف المتغيرات السياسية التي أفرزتها إرهاصات ما قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وما ترتب على خريطة المنطقة السياسية إبان وبعد الحرب، إذ كان يرى في نفسه وما يملكه من مقومات القدرة على إقامة ذلك المشروع الوحدوي الذي شاركه في تحقيق أهدافه كل دعاة الوحدة من زعماء وقادة الجزيرة العربية الذين عاشوا قروناً وعقوداً من التخلف والجهل، وذاقوا أنواع الويلات من حروب عبثية فيما بينهم فوجدوا في عودة الملك عبدالعزيز وما يحمله من مشروع هو الحلم الذي سينقذهم من صراعاتهم القبلية إلى توظيف كل طاقاتهم، وخاصة الحربية التي كانوا يوظفونها لحروبهم القبلية ذات الطابع العبثي إلى أن تستثمر هذه الطاقات في سبيل إقامة دولة موحدة.
وكان يرى الملك عبدالعزيز، وهو من درس وخبر مقومات قيام الدولة العصرية الحديثة أنه لابد أن تكون لها حدود ثابتة ودائمة ومعترف بها، صحيح كان هناك من زعامات دولته وخاصة الزعامات البدوية منها وبعض الزعامات الدينية، وهما فئتان غير ملمتان بقواعد وأصول السياسة، لا يؤمنون بفكرة إقامة حدود ستكون نتائجها من وجهة نظرهم تحديد حرية حركة القبائل الذين لا يؤمنون بحدود ولا قيود تحد من حركتهم في أي اتجاه يريدون مهما كان ثمن تلك الحرية في الحركة، والفئة الثانية كانت ترى أنهم أصحاب دعوة، وأن دعوتهم يجب أن تصل إلى كل من لا يؤمن بما تقوم عليه ركائز دعوتهم.
ولكن الملك عبدالعزيز وهو ولي أمر الفئتين وصاحب القرار وصاحب الدراية والمعرفة في أين تقع مصلحة كل مكونات شعبه، ويدرك أن زمن شن حروب الغزوات التي لا تحقق هدفاً قد ولى، ويدرك أن إقامة دولة على مبادئ وقواعد راسخة ستحقق الكثير من الأهداف التي تصب في مصلحة شعب دولة تعيش على أرض ذات حدود ثابتة، وتدير أمورها سلطة ذات قوة ونفوذ تفرض اعتراف الآخرين بها ضمن أطر ومعايير تقوم عليها كل دولة عصرية حديثة.
خاض أول حرب سياسية في سبيل تحديد حدود دولته في جهاتها الشرقية والشمالية الشرقية في مؤتمر العقير عام 1921م مع بريطانيا صاحبة النفوذ حينذاك في الخليج العربي والعراق وشرق الأردن، فكان ما تم في مؤتمر العقير هو القاعدة التي بنيت عليها معالم حدود نجد سياسياً مع جيرانها في الكويت والعراق وشرق الأردن.
عقب مؤتمر العقير كان مؤتمر الكويت الذي كان الغرض منه وضع الحدود بشكل ثابت ومحدد مع تلك الأطراف وخاصة العراق والأردن، ولكن لم ينته المؤتمر إلى شيء بسبب مواقف الأطراف الممثلة للعراق والأردن وموقف الشريف الحسين شريف مكة، أو ما أصبح يطلق عليه حينذاك ملك الحجاز. نشر الملك عبدالعزيز في أعقاب فشل مؤتمر الكويت كتاباً أطلق عليه اسم (الكتاب الأخضر النجدي) يوضح فيه موقفه بشكل جلي، ويدحض فيه أقاويل المتقولين الذي يريدون أن يحمِّلوا عبدالعزيز فشل ذلك المؤتمر، ويعد هذا الكتاب وثيقة مهمة لدارسي التاريخ والسياسة وهذا الكتاب يعد في عداد الكتب النادرة مع أهميته وحق الأجيال الاطلاع عليه وما كان يميز الملك عبدالعزيز الوضوح والشفافية في توضيح مواقفه بشكل لا لبس فيه للرأي العام العربي والدولي، وهذا ما سنلحظه في الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه للقارئ السعودي والعربي.
لم ينته الحديث عن حل مازال قائماً من الخلافات حول الحدود مع العراق والأردن بفشل مؤتمر الكويت، بل زاد عدم الوصول إلى حل الأمور تعقيداً، ورأت بريطانيا المسؤولة عن أمن العراق والأردن وأمام تحقيق الملك عبدالعزيز انتصارات على الجبهة الحجازية وإصراره على إنهاء هذه القضية بوضع حد نهائي للوجود الهاشمي في الحجاز وخوفاً من أن التطورات للأوضاع السياسية في الساحة الحجازية ولصالح الملك عبدالعزيز تجعله يرفع سقف مطالبه فيما يتعلق بالحدود العراقية والأردنية لا سيما وهناك مشكلة تبعية كل من العقبة ومعان للحجاز، والحجاز على وشك أن يصبح تحت سيطرة ونفوذ الملك عبدالعزيز، وقد يقوده إلى الادعاء في حقه في كل من المنطقتين بحكم أنهما منطقتان حجازيتان وهو مالم يكن مدار نقاش في مؤتمر الكويت، وبريطانيا حريصة على إلحاق هاتين المدينتين بإمارة شرق الأردن ومن أجل هذا سارعت بريطانيا إلى إرسال أحد رجالاتها المهمين والبارزين والعارفين بأحوال منطقة الشرق الأوسط، وهو السيد جلبرت كليتون مؤسس المكتب العربي في القاهرة، وحاكم فلسطين في إحدى الفترات ما بعد بسط بريطانيا انتدابها على فلسطين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى الملك عبدالعزيز وهو لا يزال في حالة حصار لمدينة جدة لفتح المباحثات مجدداً حول إنهاء مسائل الخلاف حول حدود كل من العراق والأردن مع حدود بلاد الملك عبدالعزيز، انتهت محادثات الملك عبدالعزيز مع المندوب البريطاني وبحضور ممثل لحكومة العراق في بلدة (حدة) بلدة صغيرة تقع بين مكة وجدة بعد مناقشات طويلة ومضنية إلى اتفاق كامل على كل المسائل المختلف عليها وتم توقيع معاهدة بذلك سميت اتفاقية حدة ولأهمية تلك المعاهدة وأهمية المحاضر التي كانت مدار نقاش طويل حتى تم الاتفاق والمذكرات اليومية التي كتبها السيد جلبرت كليتون عن محادثاته مع الملك عبدالعزيز فقد أهتميت بكل ما دار وما كتب من محاضر ومذكرات انتهت بالوصول إلى معاهدة تم من خلالها تحديد الحدود الشمالية والشمالية الغربية للمملكة، فقمت بجمع كل ما كُتب حولها وترجمناها إلى اللغة العربية ووضعناها في كتاب بعنوان «مفاوضات الملك عبدالعزيز حول الحدود الشمالية والشمالية الغربية للمملكة العربية السعودية وتقارير جلبرت كليتون» ولأن كل ما كتب حولها كان باللغة الإنجليزية، ولا ندري إذا كان هناك نسخة لتلك المحادثات باللغة العربية، ولكن لم نجد إشارة إلى أي وجود لها إلاذا كانت مرمية في مكان مهمل لا نعرف لها وجوداً أو ضمن أوراق أحد المشاركين في المحادثات من مساعدي الملك عبدالعزيز، وكان أبرزهم السيد حافظ وهبه والشيخ يوسف ياسين.
كان سبب اهتمامي بمعاهدات الحدود والمحاضر التي كانت تعد حول هذه المسائل نابعاً من كوني أحد المختصين في تاريخ المملكة العربية السعودية الحديث، إضافة إلى كوني مختصاً أيضاً في تاريخ علاقة الدولة العثمانية بالجزيرة العربية، وخاصة في فترة القرن التاسع عشر الميلادي، وعندما قمت بالبحث عن مادة كتابي (عسير في عهد الملك عبدالعزيز)، وكان أحد أهم فصوله العلاقات السعودية اليمنية والمشكلة الحدودية بين البلدين بحثت عن المصادر الوثائقية لما كان يدور حول هذه المسألة بين ملكي البلدين، وكان أهم المصادر على الإطلاق هو الكتاب الأخضر السعودي الذي نشرته الحكومة السعودية عام 1353هـ أي بعد الحرب السعودية اليمنية مباشرة وهي الحرب التي دخلتها المملكة مكرهة، وحققت من خلالها ما كانت تتمنى أن تحققه بالطرق أو الوسائل السلمية، وهذا الكتاب يعد وثيقة من أهم الوثائق الرسمية السعودية التي تناولت الشأن الحدودي مع اليمن منذ بداية التماس الحدودي بين البلدين عام 1345هـ.
ضم الكتاب كل المكاتبات من برقيات ورسائل متبادلة بين الملك عبدالعزيز وإمام اليمن ومحاضر مندوبين ولجان من الطرفين، وكانت فكرة إصداره أو سبب إصداره بهذا الشكل الرائع والوضوح غير المسبوق في العمل الدبلوماسي هو الرد على ما كانت الحكومة اليمنية، ممثلة في شخص الإمام أحمد حميد الدين، تروجه في العالم العربي والإسلامي من أنها الدولة المعتدى عليها والمسلوبة أراضيها، وهذا ادعاء تنقصه الحقيقة أو يخالفها تماماً، وليس من رد بالغ وواضح على هذه الادعاءات إلا نشر الحقائق كاملة، وكما هي في هذا الكتاب أمام العالم بأجمعه إضافة إلى ما أعلنه بوضوح وصراحة الملك عبدالعزيز في خطاب له أمام كبار وفود العالم الإسلامي الذين قدموا للحج في عام 1353هـ، أي بعد انتهاء الحرب بأيام، وأشار في خطابه أنه أمر بنشر كتاب يضم كل الحقائق مما دار بينه وبين إمام اليمن على مدى سنوات طويلة، وهو يعمل على تحاشي الدخول في حرب مع اليمن ومما قال الملك عبدالعزيز في خطابه ..... «وشرح الأمر الذي بيننا وبينه (الإمام يحيى) يطول ولكن لابد أن يطلع المسلمون بعد بضعة أيام على الكتاب الأخضر الذي أمرنا بإعداده ليعلم الجميع الأقوال التي توافق الأفعال وأننا رجال لا نعمل غير ما نقول».
بانتهاء الحرب وبتوقيع اتفاقية الطائف التي تم بموجبها ترسيم الحدود بين المملكة وجارتها اليمن ومع تقادم الزمن أصبح هذا الكتاب من الكتب النادرة وأصبح الحصول عليه من أكثر الأمور صعوبة، بل أصبح وكأنه من الوثائق السرية مع أنه طُبع ووزع في حينه، استمرت معاناتي طويلاً في الحصول على نسخة منه وأخرجت كتابي المشار إليه أعلاه عسير في عهد الملك عبدالعزيز ووجدت نسخة من محاضر ترسيم الحدود لدى الأخوة أبناء الشيخ عبدالوهاب أبو ملحة الذي كان رئيساً للجنة وضع علامات الحدود وتنفيذ ما نصت عليه معاهدة الطائف من تعويضات للقبائل القاطنة على الحدود بين البلدين وضمنتها كتابي المذكور الذي حضي بعناية خاصة من لدن الأمير سلطان بن عبدالعزيز ومنحه حماية من مقص الرقيب الذي كان في المرصاد لكل دراسة جادة ويمنعها بحجة حساسية الموضوع في الوقت الذي كان الباحث السعودي في الشأن التاريخي والسياسي وخاصة ما يتعلق بقضايا الحدود محاصراً بدائرة أو مقولة حساسية الموضوع القاضية بمنع أي دراسة في المسائل الحدودية وخاصة مع اليمن في الوقت الذي كان أخوتنا في اليمن قد أغرقوا المكتبات العربية بكتب هي أقرب إلى الدعاية والتضليل للقراء ولكن مع الزمن واستمرار صدور مثل تلك الكتب أصبحت في نظر الكثيرين حقائق، وتشبع بما جاء في تلك الكتب من مغالطات تاريخية كل من كان يجهل الموقف السعودي الذي قصر في التعريف بموقفه، وأذكر قصة من قصص كثيرة واجهتها بحكم تخصصي من قبل من كان للسعودية محباً وراغباً في قراءة ما يدعم موقفها أو أولئك الذين يعتمدون على المغالطات حتى وإن كانوا يعرفون أنها مغالطات ولكن هدفهم تسجيل موقف، كنت ضمن وفد برلماني من مجلس الشورى السعودي في زيارة رسمية للمغرب وأثناء الحديث مع زملائنا البرلمانيين المغاربة حول قضية الصحراء التي هي جزء من التراب المغربي، وهناك من الدول العربية من كانت تشجع على انفصال الجزء من الكل، وخاصة أصحاب الشعارات الداعية إلى الوحدة العربية كما سبق توضيحه، فجاء الحديث إلى مشكلتنا الحدودية مع اليمن وقبل أن تحل نهائياً، وكان الحديث مع سياسيين واسعي الثقافة في السياسة والتاريخ فقالوا إن المشكلة في تفهم موقفكم يعود لقصوركم في التعريف بقضيتكم وموقفكم، فلقد بحثنا في كل المكتبات عن كتاب يوضح موقفكم فلم نجد بينما المكتبات العربية ومنها المكتبات المغربية لا تخلوا من أكثر من كتاب لمؤلفين يمنين أو مؤلفين عرب معاطفين ومروجين للموقف اليمني.
ما كان لدي من جواب إلا أن أقول معكم حق ونتيجة لعدم تمكني من العثور على هذا الكتاب الذي لم يُطبع إلا مرة واحدة عام 1353هـ، ثم أسدل عليه الستار، وأصبح في عداد الكتب النادرة أي النادر الحصول عليها، وأنا من عشاق البحث عن الكتب النادرة، والباذل أي ثمن في الحصول عليها، هذا الكتاب النادر والمهمة قراءته من قبل كل مواطن سعودي دعك عن الباحثين وأصحاب الاختصاص نجد أنفسنا عاجزين في الحصول على نسخة منه، جعلني أفكر بعد الحصول على نسخة مصورة من قبل أحد الأصدقاء الذي عرف اهتمامي بهذا الكتاب أن أقوم بإعادة نشره حتى وبدون إذن من الجهة الناشرة أصلاً، وهي وزارة الخارجية السعودية في عام 1353هـ، وأعرف أنني بذلك لست مخالفاً للقانون، فالقانون الدولي للمطبوعات:
أولاً: يبيح حق إعادة طباعة أي كتاب مضى على صدوره خمسون عاماً دون المطالبة بحق الملكية، وهذا الكتاب مضى على طباعته واحد وثمانون عاماً.
ثانياً: كون الكتاب لا يستغني عنه أي باحث سعودي وحتى أي باحث من أي جنسية كان يعمل في حقل السياسة والتاريخ.
ثالثاً: اهتمامي الشخصي كباحث في الشئون السياسية والتاريخية ومؤسس مركز إحدى أهم مهامه الدراسات التاريخية بأن أوثق كل ماله علاقة بتاريخنا الوطني.
رابعاً: لا أريد للباحثين الجدد الآن وفي المستقبل أن يعانوا كما عانيت على مدى عقود في البحث عن كل ماله علاقة بتاريخنا الوطني.
خامساً: أعتقد أن من سيستفيد من إعادة طباعة هذا الكتاب هم منسوبو وزارة الخارجية دبلوماسيون أو طلاب معهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية، وبالطبع المستفيدون كثر، منهم طلاب أقسام التاريخ، وكليات القانون، وأقسام دراسات العلاقات الدولية في كليات العلوم السياسية.
مع صعوبة إعادة صف وإخراج هذا الكتاب على ضوء النسخة المصورة الوحيدة التي تمكنت من الحصول عليها، فقد بذلنا جهداً مضنياًّ للتغلب على مشكلة عدم وضوح التصوير في بعض الصفحات وعلى تآكل الحروف في بعض الكلمات إلا أننا حاولنا أن نخرجه في أقرب -إن لم يكن أكمل-صورة لما كان عليه في طبعته الأولى مع ما يوجد فيها من بعض الإشكاليات، ولعل من يطلع على هذا الكتاب التوثيقي في طبعته الثانية أي هذه الطبعة وهو يملك نسخة من الكتاب في طبعته الأولى أن يزودنا بها لكي نتحاشى أي خلل أو قصور في الطبعات القادمة.
كلمة لابد من قولها، وهي تقديم الشكر والعرفان والامتنان لأولئك الرجال الذي عانوا كثيراً في سبيل هذا الوطن وعلى رأسهم المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز، وأولئك الذي عانوا مشاق الأسفار على ظهور الرواحل ومكابدة الظروف الصعبة وهم يقطعون المسافات الطوال عبر الصحاري الموحشة والجبال الوعرة في التنقل والترحال بين الرياض وصنعاء ومكة وأبها وجازان ونجران، ويعانون كل أنواع المشاق فقاموا بإنجاز المهمات التي أوكلت إليهم على أحسن وجه أن القليل جداً من أبناء هذا الجيل يذكرهم بما فيهم المثقفين إن لهم في أعناقنا دين لم يكونوا ليطلبوه حينما كانوا يبذلون حياتهم وراحتهم في سبيل خلق وطن آمن بحدود آمنة.
إنني وباسم جيلي أرفع لهؤلاء عظيم التقدير والاحترام والإجلال والافتخار، وعلينا جميعاً أن نبحث عن الوسائل لإحياء ذكراهم تغمدهم الله جميعاً برحمته جزاء ما قدموه لنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.