لا يكاد أي خطاب - مهما كان موضوعه - يخلو من معجم هذا الحقل؛ لأن المعجم عادة يرتبط «ارتباطاً حياً بتجربة المرسل وموقفه ورؤيته للحياة، والمعجم ابن البيئة؛ إذ المجتمع وبيئته لهما تأثير على معجم المرسل اللغوي، فهو لا يبتعد كثيراً عن فلك المفردة المحيطة به؛ ليساير الذوق العام من حوله»، ومن عادة المتكلم عموماً أن يصوّر كثيراً مما في حياته بما تقع عليه عينه في بيئته، والطبيعة أظهر ما في البيئة، وربما وجد الناقد هذا الحقل سائغاً أمامه؛ فاختار منه ما يلائم خطابه، ولعل هذا الحقل الدلالي وغيره من الحقول يصدق عليها أن «الطبيعة تسوق حمولات دلالية كبيرة داخل مجتمع يتميز بثقافة شفوية عريقة، فبعض الظواهر الطبيعية والأجناس الحيوانية والنباتية مغاز عميقة تتجلى في صورة منبهات تثير لدى الإنسان ردود فعل، وسلوكاً خاصاً»، فالجاحظ يتحدث عن وقع الشعر مفيداً من معجم الطبيعة، يقول: «فإذا كان المعنى شريفاً واللحظ بليغاً، وكان صحيح الطبع بعيداً من الاستكراه، ومنزَّهاً عن الاختلال مصوناً عن التكلّف، صنعَ في القلوب صنيعَ الغيث في التربة الكريمة»، كما استقى ابن طباطبا من معين هذا الحقل في تصوير وقع الشعر المتماسك بأنه كالرياض الزاهرة. وقد وردت بعض ألفاظ هذا الحقل عند البحتري؛ إذ قيل له: «الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام! فقال: والله ما ينفعني هذا القول،...، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه»، وجاءت في قول أبي هلال العسكري: «والخواطر كالينابيع يُسقى منها شيء بعد شيء». ونقل ابن قتيبة في عيون الأخبار أنه «مدح أعرابي رجلاً فقال: كلامه الوبل على المَحْل»، ولم يبعد الناقد الفيلسوف أبوحيان التوحيدي عن معجم هذا الحقل في قوله: «أما السلامي فهو حلو الكلام، متسق النظام، كأنما يبسم عن ثغر الغمام، خفي السرقة، لطيف الأخذ، واسع المذهب، لطيف المغارس»، كما جاءت ألفاظ هذا الحقل في قول ابن عبيد وهو يناظر أبا حيان في تفضيل الحساب على البلاغة: «البلاغة زخرفة وحيلة، وهي شبيهة بالسراب، كما أن الأخرى شبيهة بالماء». فهذه الشواهد -وغيرها كثير- تجعلنا أمام ألفاظ يربطها حقل الطبيعة، ومنها: (الخواطر، يُسقى، الغيث، التربة، الرياض، الزاهرة، نسيم، يركد، هواء، أرض، تنخفض، سماء، الغمام، المغارس، السراب، الماء).
- د. سعود بن سليمان اليوسف