حكم الساكن قبل لام التعريف المحركة لالتقاء الساكنين
إذا اتصلتْ (أل) باسم مبدوء بهمزة وصلٍ نحو (الانتهاء) و(الاستغفار) و(الاسم) و(الاثنين) فهل تُعَدّ لام (أل) متحركة فتُحذف همزة الوصل منها عند الابتداء بها ولا يُتخلّص من سكون ما قبلها إذا كان ساكنًا، أم تُعدّ ساكنة مراعاة لأصلها فتثبت همزة الوصل عند الابتداء بها ويُتخلّص من التقاء الساكنين؟
جواب ذلك أنه يجوز في المسألة الوجهان المذكوران:
الوجه الأول: أن تعتدّ اللام ساكنةً في الحكم وإن كانت متحرّكةً في الحالِ، فينبني على ذلك أمران:
أحدهما: أن تُثبت نطق همزة الوصل في الابتداء فتقول: (الانتهاء) (الاستغفار) (الاسم) (الاثنين) ولا تحذفها مع ذهاب الغرض الذي جيء بها من أجله، وهو التوصُّل إلى النطق بالساكن، وذلك بتحرّكِه، لأنك تقدِّر بقاء سكونه إِذْ كان ذلك هو الأصل.
ثانيهما: إذا وقع قبلها كلمة آخرها ساكنٌ أجريتَ عليه حكم التقاء الساكنين من تحريك نحو (منَ الانتهاء)، (عنِ الاستغفار)، (واجبٌ [= نِ] الاحترامُ) أو حذفٍ نحو (في الاسم) بحذف ياء (في) نطقًا.
الوجه الثاني: أن تعتدّ اللام متحرّكةً لا ساكنة كما هو ظاهر حالها، فينبني على ذلك أمران:
أحدهما: أن تحذف همزة الوصل في الابتداء فتقول: (لِانطلاقُ) (لِاستغفارُ) (لِاتّجاهُ) (لِاسمُ) (لِاثنين).
ثانيهما: إذا وقع قبلها كلمة آخرها ساكنٌ لم تُجرِ عليه أحكام التقاء الساكنين، فتقول: (منْ لِانتهاء)، (عنْ لِاستغفار)، (واجبٌ [=نْ] لِاحترامُ)، (فيْ لِانطلاق) بإثبات ياء (في) نطقًا، تفعلُ ذلك لأن اللامَ في تقديرك متحرّكةٌ لا ساكنةٌ.
والحجّة لذلك السّماع والقياس.
أما السّماع فقد حكى الفرّاء (ت 207هـ) أن (العرب تقول: قمْ لَان، وقمِ الَانَ، وصُمِ الاثنين، وصُمْ لِاثنين) ([1])، فذكر جواز الوجهين. وحركة لام (الاثنين) حركة التقاء الساكنين، فهي من جنسِ حركة (الابتداء) و(الاستغفار) ونحوهما.
وأجاز بعض القرّاء الابتداء بـ (الاسم) في قوله تعالى: ((بئس الاسم)) بإثبات الهمزة مراعاةً للأصل، وبحذفها مراعاةً للعارض ([2]). وحكمُ (الاسم) و(الاثنين) حكمُ (الابتداء) و(الاستغفار) ونحوِهما لأنّ حركة اللام فيهنّ لالتقاء الساكنين.
وأما القياس فإنه يؤيِّد الوجه الأول، وهو اعتداد اللام ساكنةً، من طريقين:
الطريق الأولى: القياس على الأصول. وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن أصلَ لام (أل) السكون. وهذا هو معقِد جِبِلّتِها ومبتدأ نشأتِها وقانون استعمالها في عامّة أحوالِها وجمهرة تصرّفاتِها كـ (القمر) و(الشّمس) ونحوها. وبكَرهٍ ما أخرجوها عن أصلِها هذا في نحو (الانتهاء) و(الاستغفار) و(الاثنين) فحرّكوها بالكسر، إِذْ اضطرَّهم إلى ذلك شدّة الخَلّة وتضايقُ المحَلّة بالتقاء الساكنين. كما أخرجوها عن أصلها أيضاً في نحو (الَان) تخفيف (الْآن) و(الُولى) تخفيف (الْأُولى) و(الِيمان) تخفيف (الإيمان) فحرّكوها بالفتح والضمّ والكسر بعد نقل حركة المحذوف بعدها إليها.
الوجه الثاني: أن هذا التحريكَ مع عُروضِه وكونه اضطرارًا لا اختيارًا هو أيضًا قليلٌ إِذْ لا يكون إلا في المبدوء بهمزة وصلٍ من الأسماء، وهي الأسماء العشرة، على أن من النحاة من منع لحاق (أل) لبعضها كـ (أمرئ) و(امرأة)، ومصدرُ الخماسي كالابتداء والانتهاء، ومصدرُ السداسي كالاستغفار. وإلا في ما وليَ (أل) فيه همزةٌ كـ (الَان) ونحوها. وهذه الألفاظ مع قلّتِها هي لغةٌ لا يتكلّم بها إلا بعض العرب من من مذهبُه تخفيف الهمز، فقد رأيتَ أن الألفاظ التي تُحرّك فيها (أل) ضئيلةٌ جدًّا إذا قِيست بعامّة الأسماء سواءٌ أكانت اللام فيها قمريّة ظاهرة أم شمسية مدغمةً.
الطريق الثانية: القياس على النظائر. وذلك أن العلماء حكَوا جواز الوجهين مراعاةِ الأصل ومراعاةِ العارض في الساكن قبل (أل) المتحركة بحركة الهمزة المحذوفة بعدها كـ (الَحْمر) في (الأحمر)، فيجوز أن تقول مثلًا: (مِنَ الَحمر) و(مِنْ لَحمر). ومن من ذكر ذلك الفرّاء في نصّه المنقول آنفًا، والأخفش (ت 215هـ) ([3]) وغيرُهما. وقد التزم ورشٌ في القراءة بمراعاة الأصل في نحو ((عنِ الَاخرة))، ((منَ الَرض))، ((وألقَى الَلْواح))، ((قالوا الَان)) ([4]). ويجوز أيضاً إثبات همزة الوصل عند الابتداء بها مراعاةً للأصل نحو (الَحمر)، وحذفُها مراعاةً للعارض نحو (لَحْمر). وهما وجهان جائزان لورش وغيرِه ([5]).
ولا فرقَ مؤثرًا بين حركة التقاء الساكنين وحركة النقل، فكلاهما حركةٌ عارضةٌ. وإذْ بلغَنا عنهم مراعاة الأصل ومراعاة العارض في (أل) إذا تحرّكت بحركة النقل كذلك ينبغي أن يكون حكمها إذا تحرّكت بحركة التقاء الساكنين.
وزعم ابن جنّي (ت 392هـ) أنّ بين حركة التقاء الساكنين وحركة النقل فرقًا، فأجاز في ما حركته حركةُ نقلِ كـ (الَان) الوجهين، ولم يُجز في ما حركته حركةُ التقاء ساكنين إلا مراعاةَ الأصلِ، فلا يجوز على رأيه أن تقول : (فيْ لِانتظار) بإثبات ياء (في) ولا (منْ لِابتداء)، قال: (لأن حركة التقاء الساكنين أضعف من الحركة المنقولة من الهمزة المخفّفة لأن حركة الهمزة المخففة في الحقيقة قد كانت ملفوظًا بها في حرف صحيح مقدَّر، فلما حذفتَه نقلتَه إلى ما قبله... وحركة التقاء الساكنين لا تلزم لزوم هذه لأنه إذا زال أحدهما زالت معَه) ([6]).
وهذه التفرقة منه بين الضربين مدفوعةٌ بحكاية الفرّاء عن العرب استعمالَ الوجهين، وذلك قولُهم: (صمِ الاثنين، وصمْ لِاثنين). والسماع حاكم على القياس.
على أن هذا القياس نفسَه لا يُسلّم به، إِذْ كما أنّ حركة التقاء الساكنين تزول إذا زال أحد الساكنين فكذلك حركةُ النقل تزولُ إذا رُدّ المحذوف في لغة من يهمز، بل إنّ ردّ المحذوف أكثر وأفشَى وأعرفُ من زوال أحد الساكنين، فما أكثر ما يقال في (الَرض): (الْأرض)، ولكنا لا نجد لام (الِابتداء) و(الِاسم) تسكن إلا إذا قُطعت همزة الوصل بعدها في ضرورة الشعر فقيل: (الْإبتداء) و(الْإسم). هذا مع أن حركة النقل ليست لها صورةٌ واحدةٌ لأنّها تكون فتحة وضمّة وكسرة كما مضى بيانُه، وحركة التقاء الساكنين لا تفارق الكسرةَ. فإن لا تكن حركة التقاء الساكنين أقوى وأشدّ لزومًا من حركة النقل فإنهما بمنزلةٍ سواءٍ.
وتفسير عِلّة هذا الوجه، وهو مراعاة الأصل، أنّ العربَ لما وجدوا هذا التحريك عارضًا لا دائمًا، وضرورةً لا اتّساعًا، وقسرًا لا اختيارًا لم يشملوه بعنايتهم ولم يحطّوا إليه رحالَهم ولم ينوِّلوه من الحدَب والحَفاوة إلا بالقدرِ الذي يرونه مجزئًا عن نفعه لهم وقيامه بخدمتهم، وأعناقُهم معَ ذلك صُوْرٌ إلى أصلِه ونفوسُهم متطالّة إليه وأفئدتهم لا تنفكّ تنازِعهم إلى سرعة مراجعته والأوبة إليه. وكأنهم أرادوا بذلك أن يحطُّوا العارض دون الأصلِ درجةً إِذْ كان وجودُه تابعًا لوجودِه ومنوطًا به، فنصبوا بالصّدود عنه وقلّة الحفْلِ به دَليلاً على منبِتِه ومَنبهةً على أرومتِه. كما كرِهوا أن يسوُّوا الأثيلَ التليدَ بالطارِف الجديد، ويعدِلوا القديمَ الثابتَ بالمستأنَفِ الحادثِ، ويعلِّقوا أحكامَهم على ما يعلمونَ سرعةَ تحوُّله ووشْكانَ رحيلِه. وهذا شاهدٌ على بعد غورهم ونفاذ فطنتهم ([7]).
وقد علمتَ أيضاً أن الكلم التي تُحرك لام (أل) فيها هي مع عروضِها قليلةٌ غير غالبةٍ، فعرفوا أنهم لو اعتدّوا بهذا القليلِ العارضِ لأحوجهم ذلك إلى أن يتحّولوا عن قديم إلفهم وينقضُوا مستحصِد عادتِهم فيغيِّروا حكم ما يتقدَّمها من تحريكٍ أو حذفٍ، ويسقطوا همزةَ الوصل منها إذا ابتدءُوا بها، وفي النُّقلةِ ومفارقةِ العادةِ العناءُ والنّصبُ والاستهانةُ بالإخاء والحُئولُ عن العهدِ. فساموا هذا القليلَ الفاذَّ حكم الجمهور الأعظمِ من ما تلحقُه أل، وأهلكوه فيه لغوًا ولم يعبئوا بتحرّك لامه إِذْ كان هذا قليلًا نادرًا. وسهَّل لهم ركوبَ هذه الخطّة أنَّهم لو لم يفعلوا ذلكَ لاحتاجوا إلى أن يردّوا ما اعتادُوا إسقاطَه ويعودوا إلى الافتقار إلى ما عرفوا من أنفسهم القدرةَ على الاستغناء عنه فيرجعوا بذلك إلى مرارةِ الثّقَلِ بعد أن ذاقُوا حلاوةَ الخِفّةِ ويعانُوا مشقَّة الصعود وقد جرَّبوا راحةَ النزولِ، وذلك حين يقولون: (فيْ البيت أو في الدّار) بحذف ياء (في) نطقًا إلى ما لا يُحصى من نظائرِ هذا كثرةً وذيوعًا ثم إذا صاروا إلى ما أوّله همزة وصل قالوا: (فيْ لِابتداء) بإثبات الساكن قبل (أل). وهذا ثقيلٌ مستكرَهٌ.
وقد وجدنا العربَ تطّرح العِلّة التي قد خلا في سُنَنها الاعتداد بمثلِها وبناءُ الأحكام عليها، وذلك إذا كانت أفرادُ هذه العلّة قليلةً معدودةً، ألا تراهم احتملوا ثِقَلَ الواو في مضارع المثال من (فعُل يفعُل) كـ (وضُؤ يَوضُؤ) و(وسُم يَوسُم) فلم يحذفوها مع أنهم أبوا احتمالها في (فعَل يفعِل) كـ (يعِد) و(يجِد)، وذلك لقلّة أفراد الأوّل وكثرة أفراد الثاني.
ومن ذلك أيضاً أنهم يكسرون نون (مِن) إذا وليها ساكنٌ نحو (مِنِ ابنِك) جريًا على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، ولكنهم يمتنعون من ذلك إذا كان هذا الساكن لام (أل) نحو (مِنَ البيت) فيفتحونها. فأساغُوا ثِقَل توالي كسرتين في الضرب الأول لقلّتِه، وبهظَهم ذلك في الضرب الثاني لكثرتِه وذيوعِه ففرّوا منه إلى الفتح.
ومن أجل القلّة أيضاً شحُّوا على الاسم الخماسيِّ ببناءِ تصغيرٍ مخصوصٍ به، وألحقوه بالرباعيّ، وكان حذْفُ حرفٍ منه وإن كان أصليًّا آثرَ عندهم وأحبّ إليهم من افتراع بناء مستقلٍّ له، وذلك لقلّة المستعمَل منه.
وهم كثيرًا ما يجعلون القليلَ بمعنى المعدوم ويوقعونه موقِعه كما قال تأبط شرًّا:
قليلُ التشكّي للمهمّ يصيبُه ** كثير الهوى شتّى النوى والمسالكِ
لا يريد أنه يتشكَّى أحيانًا، وإنما يريد نفي تشكّيه البتةَ.
وكأن الذي حملَهم على ذلك أنهم لما كانوا إذا أرادوا المبالغة في الإثبات جاءوا بلفظ (كثير) توهّموا أنّ ما يقابِله من اللفظ، وهو (قليل)، يفيد ضدّ هذا المعنى، وهو المبالغة في النفي كما هي العادة في الألفاظ المتقابلة كـ (العظيم والحقير) و(الكبير والصَّغير) ونحوها. ومدَّهم في هذا الوهم قربُ ما بين القليل والمعدوم في المعنَى.
وأما الوجه الثاني، وهو اعتداد اللام متحرّكةً، فإن تأويلَه من جهة القياس حملُه على نظيرِه، وهو ما كانَت حركة اللام فيه للنقلِ كـ (الَان) و(الَرْض). وقد ذكرنا آنفًا أن العربَ يراعون فيه الأصالة والعُروض. ومن شواهد مراعاة العُروض قول عنترة:
وقد كنتَ تُخفي حبّ سمراء حقبةً ** فبُحْ لَانَ منها بالذي أنت بائحُ
وذلك أن الاعتداد بالعارض وإن لم يكن قياسًا مطّردًا وسنةً متّبَعةً فإن العرب من ما يحفِلون به في بعض المسائل كما قالوا في (رُوْيا) مخفف (رؤْيا): (رُيّا)، كأنّهم وجدوا في مراعاة الأصلِ مشقّةً وعنَتًا، ومحافظةً وجمودًا، فآثروا النظرَ إلى الحال على تكلُّف ملاحظة المآل. وكلا الوجهين حسنٌ إلا أن الاعتداد بالأصلِ هو الكثير الغالب والسائر المنقاد. ولولا أنّا سمِعنا اعتدادَهم بالعارض في هذه المسألة وفي نظيرها لما جازَ لنا القياس عليه.
فقد ظهر إذن جواز هذين الوجهين في هذه المسألة بشهادة السماع والقياس. وأعلى الوجهين وأفصحهما هو الوجهُ الأوّل لما بينتُ لك.
***
([1]) معاني القرآن 3/ 102. وقد وقع فيه بعض التحريف. وانظر أيضًا الحجة لأبي علي الفارسي 6/ 239. وصواب هذه العبارة فيه (اضرب اثنين، وأكرم ابنين) هو (اضربَ الاثنين، وأكرمَ الابنين). وهي موضع الشاهد.
([2]) النشر لابن الجزري 2/ 440، تح أبو الجود.
([3]) في معاني القرآن له / . وانظر أيضًا كتاب الادّغام لأبي سعيد السيرافي ص ، والحجة لأبي علي الفارسي / ، والتكملة له ص ، تح كاظم المرجان.
([4]) النشر 2/ 441.
([5]) النشر 2/ 440.
([6]) الفسر 3/ 88، تح رضا رجب. وقد عرفتُ موضع هذا الكلام من الأستاذة عائشة بنت علي في الحديث 6650 في ملتقى أهل اللغة. وانظر أيضاً الخصائص 3/ 90، تح النجار.
([7]) وانظر مسألة الاعتداد بالأصل والعارض في مقالتي (تقويم التقييم) المنشورة في ملتقى أهل اللغة في الحديث 7444، ففيها شيء من البسط والبيان.
- فيصل المنصور
Faysalmansour@gmail.com