د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لطالما كانت زيارة إسبانيا حلماً، فقد كنتُ مشغوفاً في فترةٍ ما بقراءة التاريخ الإسلامي فيها، ذلك التاريخ العريق الذي لا تزال آثاره باقيةً حتى الآن، لهذا عقدتُ العزم هذه السنة على زيارتها، وكان الأول من أكتوبر من هذا العام موعداً لإقلاع الرحلة التي انطلقتْ من مطار الملك خالد بالرياض في الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، كان المطار شبه خالٍ من المسافرين، نظراً لبدء الدوام، ولأنَّ الأشهر الأخيرة من العام الميلادي ليست موسماً للسفر، حيث تزداد الأجواء برودةً في أغلب الدول السياحية.
اخترتُ (الخطوط البريطانية) ناقلةً في هذا الرحلة الحالمة، نظراً للقيمة المبالغ فيها من خطوطنا السعودية التي عوَّدتنا على خداعها وتضليلها في مثل هذا الوقت من السنة بتخفيضاتٍ وهميةٍ تزيد سمعتها سوءاً، كانت هذه الرحلة التجربة الثانية في السفر مع الطفلتين بعد زيارة (تركيا) العام الماضي، إذ كانتا مصدراً لثلاثة أرباع الجهد الجسمي والذهني آنذاك، وحين لم تفلح كلُّ محاولات التخلص منهما لم يبقَ إلا الرضوخ للأمر الواقع. استمرتْ الرحلة 6 ساعات، نام فيها الجميع عدا صاحبكم الذي ابتلاه الله بطقوسٍ غريبة وقواعد صارمة عند النوم، ولم أملك إلا أن أقلِّب عيني متصفحاً بعض الكتب الإلكترونية، ومتعجباً من قدرة بعضهم على النوم العميق في وضعية الجلوس، شعرتُ بالفخر حين أعلنوا أنَّ الأطعمة المقدَّمة وفق الشريعة الإسلامية، وأنهم لن يتمكنوا من تقديم المشروبات (الروحية) إلا بعد الخروج من الأجواء السعودية، ولأنَّ الأوروبيين معروفون بالصرامة في تطبيق الأنظمة، فقد أصروا أن تجلس الطفلتين في مقعدهما الخاص عند الإقلاع، وأن تربطا الحزام غير آبهين ببكاء الصغرى التي لم تتجاوز السنتين والنصف. في الخامسة والنصف فجراً حطَّت طائرتنا في مطار (هيثرو) بلندن، واستقبلنا جوٌّ باردٌ يزينه مطرٌ غزير وأصوات الرعد وومضات البرق، حيث سننتظر هناك ساعتين قبل أن نكمل رحلتنا إلى (مدريد)، أخبرونا قبل الهبوط أن نتبع اللوحات ذات اللون البنفسجي إن كنا عابري سبيل، وزادنا إيضاحاً أحد الإخوة المصريين الذي أرشدنا إلى مكان القطار وفي أي محطة ننزل. حين وصلنا إلى مكان فحص التذاكر اكتشفنا أننا نسينا جهازَي (الآي باد) الخاصين بالطفلتين في الطائرة، هنا واجهتنا أولى المتاعب، لأنَّ هذه الأجهزة في غاية الأهمية لنا قبل الطفلتين، إذ تساعدنا قليلاً في إلهائهما في أوقاتٍ لا ينقصنا فيها إزعاجهما، بل إنَّ صعوبات هذه الرحلة ستتضاعف دونهما، لذا كان لا بد من استرجاعهما بأيِّ طريقةٍ كانت، ومن المفارقات أننا قبل النزول من الطائرة لاحظتُ حقيبةً نسائيةً منسيةً في أحد مقاعدها، فنبهَّتُ المضيف إليها! انطلقتُ عائداً إلى الخلف دون أن أدري ما سأفعل، قررتُ التوجه إلى مكان الطائرة، لكني تراجعتُ عن ذلك، لأنه من غير المعقول أن تظلَّ الطائرة في مكانها بعد كل هذا الوقت، خاصَّةً أننا آخر مَن نزل منها، فاستنجدتُ بأقرب مسؤول واجهته، ومن حسن الحظ أنه كان مغربيا، أفهمتهمشكلتي بصعوبة، فأرشدني إلى آخر أخبرني أنه يجب علي الانتظار قرابة الساعة حتى يمكنهم من إفراغ الطائرة، وحين أخبرته أنَّ لديَّ طائرةً أخرى يجب أن ألحق بها طمأنني بأنَّ الأمور ستكون على ما يرام. كانت تلك اللحظات صعبةً للغاية، فعينٌ على الساعة، وأخرى على الممرِّ الممتد أمامي أملاً في أن أرى أحدهم قادماً يحمل البشرى معه، وأذنٌ أهاتف فيها أم الطفلتين، وأخرى أترقَّب بها إعلان الرحلة القادمة التي اقترب موعدها، وذهنٌ مشغولٌ بمستقبل الرحلة دون الجهازين، إلى أن جاء الفرج قبل ربع ساعة من الإقلاع، واستلمتُ الحقيبة الوردية (الثمينة)، وما هي إلا دقائق حتى وجدنا أنفسنا في طائرةٍ أخرى ستقلع بنا إلى (مدريد) في مدة لا تقل عن ساعتين. حين وصلنا إلى العاصمة الإسبانية نزلنا من الطائرة وركبنا قطارين توجَّها بنا إلى مكان استلام الحقائب، وهنا واجهتنا ثاني المتاعب، إذ لم نجد أثراً لحقيبتينا، فتوجهتُ إلى المسؤولة وأريتها البطاقات الخاصة بهما وأبلغتها بوصفيهما، وبعد أن رفعتْ بلاغاً بفقدهما وتواصلتْ مع الرحلات القادمة الأخرى بشَّرتْنا بأنهما موجودتين في الرحلة القادمة التي لن تصل قبل ساعة، فسلَّمنا أمرنا لله وحمدناه، فالتأخير ولا الفقدان، وحين استلمنا الحقائب بقي إجراءات استلام السيارة التي ستقلُّنا إلى السكن في (مدريد)، بعد رحلةٍ طويلةٍ أكملتُ فيها أكثر من 28 ساعة متواصلةً دون أن يغمض لي جفن.