تطولك الأيام والسنون كما طالت غيرك فيطمرك الزمن برماله ويعلوك عجاجه حتى تذروك الرياح فيمحو من ذاكرتك ماجدَّ من جديد ويبقى قديمك راسخاً كالصخرة الصمّاء تراوح على لسانك قصصه وحكاياته فتنظر إليه من بعيد نظرة المشفق المتنهد لحنين تمنيت ألا يغادر !
فمريض الزهايمر يفقد ذاكرته حتى أنه لا يذكر ماذا أكل وشرب في ساعته ولكن تبقى أيامه الخوالي عالقة يطريها كلما هجع النوّم وهبت ريح الشمال فتسمع منه ما لم تسمع من قبل ويطرق أبواباً ما كنت تعلم أنه طرقها من قبل بدموع تذرف من عيون ظل بها من رماد العمر بقيّة يستعين بنورها على شظف العيش وصروف الليالي فوقفتُ أسألها ! وكيف سؤالنا؟!
صمّاً خوالدَ ! ما يبين كلامها
وقفت على بيت لبيد طويلاً أشد من وقوفه على الأطلال البالية معجباً به أيما إعجاب ! فوقوف لبيد وقوف ملحٍّ على نفسه بالسؤال متحيرٌ فيه وكيفيته! فقد أطال ثم أطال وعدد وأكثر التعداد ! أجد في نفسي ما وجد لبيد في نفسه من صراع الحاضر وحنين الماضي - عفت الديار محلها فمقامها- فالزمن كفيل بأن تعاف الديار وتظل رسماً دارساً يسابقه وجد الذكريات لأيام الصبا ومراتع الأحباب! وقوف فيه من الشجا والتعجب عما حلّ بها صامتاً يفكر في كيف يتذكر ؟ وكيف يسأل ؟ وهو منبهر وكأنه أطلقها وبوّده لو تراجع عن ذلك ! وإذا بها صمّ خوالد كصاحبه الذبياني حين سأل وعيّت جواباً ! وهكذا كل الشعراء يسألون ولبيد فقط يحتار في كيفية السؤال لأنه أمام خلق آخر لا يكاد يبين فهو كلف في الوقوف وكلف في السؤال وكلف أيضاً في عاطفته بل هو شديد في ذلك ! وحيث أسهب وأطال الوقوف أكثر من غيره لأن قلبه الجامح متيّم بحب الذكرى ضعيف أمام ديار نوار ! ولست أوافقه في عدم بيانها ! فإن في سكوتها كلام وكلام وتعبير يبوح مافي القلب من كلمات نفثت حروفها في كل زاوية وممر متحسساً جدرانها فتنطق بقاياه وتستفيض في سرد الحكايا بدموع سقت تلك المرابع ردحاً من الزمن مستعيضة بذلك عن بوح الثرثرة ! .
وقفت معه أيام المرحلة الثانوية بشرح الزوزني بتحقيق المستشرق دي ساسي وقوف متأملٍ ووقفت أيام الجامعة بتحقيق الدكتور إحسان عباس وقوف دارسٍ وهآنذا أكرر وقوفي ولكنه وقوف تذكر دون طلل فقد أندرست منازلنا بحيث لقى لبيد ما كان يؤمل أن يلقاه ليشتمّ منه رائحة من فقده من الأحباب!
أرأيت كيف يخلد الرسّامون قصائد الشعراء بلوحاتهم الصامته وفرشهم المطواعة ؟! فينطقون الجوامد ويحركون السواكن لتبعث ما في النفس مستثيرة ومستفزة كوامن كانت حبيسة أدراج القلب فتثير سحابة الحنين حتى تمطر من ولع الذكريات أشياء وأشياء ! هكذا كنت وكان أبوعقيل لبيد بن ربيعة العامري من قبل في زمن لا بد أن نعود إليه حين نتذكر ماضينا الجميل .. !!
- زياد السبيت