حين يطرح عليّ سؤال الصحافة المعتاد «لمن تكتبين؟» أجيب بانفعال «لأي أحد يقرأني». إن السؤال بليد، فهو يكشف اعتقاد الصحافة أن الكاتب يفترض، مثلها، «جمهورًا محتملًا».، وهو يبدو مشابهًا لواحد من مبادئ السوق المعادية للفن: اعطِ الجمهور ما يعرفه. لكن الكتّاب - والمبدعين على اختلاف مجالاتهم- خُلقوا لكسر رصيف العادة وخرق السياج الذي يطوّق الإحساس: رد فعل خيالي حر ينمو مثل العشب. نؤمن جميعًا أننا قادرون على إطلاق القواسم المشتركة الجوهرية للروح البشرية، ولا يحد امتدادنا سوى حجم موهبتنا، أليس هذا في النهاية هو ما تلقيناه بأنفسنا من لمسات الكتاب الآخرين؟
إن لم نكن ننتج لشركة ميل وبون للنشر، إن لم نكن نكتب منشورات سياسية متخفية تحت ستار أعمال خيالية، لن يكون لنا رفقة في الظل من الرؤوس هناك، من معجبي البرامج الحوارية، أو من أنصار الحزب، لكن شعرت لبعض الوقت بشيء من الانزعاج لقولي «لأي أحد يقرأني»، وقد عاد إليّ الصدى: «أوه حقًا؟ عجبًا!»
أخذت أفكر أنه هناك سؤالًا لا بد من طرحه، لكنه ليس» لمن نكتب؟» بل «لمن يمكننا أن نكتب؟» أليس هناك شيء من قبيل الكاتب المحتمل ربما؟ الافتراض المعكوس؟ وهل يمكنني تجاهل ذلك بشكل مستبد؟
خطرت لي هذه الشكوك - أو الأفكار بشكل أدق- من قراءاتي في النظرية الأدبية بمرور السنين أقل من كونها نتيجة التجربة في العالم ليس بين الأشخاص العاديين - لا أحد عادي بالنسبة للكاتب - بل بين أشخاص ليسوا من عالم الأدب، وهذا لا يعني أنهم لا يقرؤون، بل أن قراءاتهم لا تقع في نطاق الثقافة التي يفترضها الأدب مقدمًا.
وهنا كان لا بد من تصحيح الذات ثانية. تتكون الأفكار عبر التناقضات بين النظرية الأدبية - التي تعنى بالطبع بإدراك القارئ إلى جانب مقاصد الكاتب الواعية وغير الواعية- وبين التجربة الفعلية للرجل أو المرأة كطرف مستقبل لكل هذه التأملات: القارئ العام.
لأن القارئ العام لا بد أن يكون ذلك الذي أضعه في اعتباري حين أجيب أنني أكتب «لأي أحد يقرأني». لقد كنا جميعًا قبل أكثر من عشرين عامًا، مدوّخين أو مرتابين (أو كلاهما معًا) باكتشافات البنيوية وتحليلها لإبداعنا وعلاقتنا بالقارئ، وبدت الشروحات الفرويدية التي تحمس لها بعضنا بسيطة ومتوقعة بالمقارنة بها. لقد كان اللاوعي جوهريًا على خلاف المنهجية الدقيقة لعمل مثل، لنقل كتاب س/ ز لرولان بارت، الذي نشر عام 1970 بناء على عمل أنجز في الستينيات، والذي تحول فيه التركيز الكامل من الكاتب إلى القارئ. لقد كان هدف بارت «نفي صفة المستهلك عن القارئ وجعله منتجًا لنص يمكن قراءته وليس كتابته». لقد أعيد تعريف الرواية والقصة القصيرة والقصيدة على أنها «مجرة من الدلالات» (1). لقد كان إيمان بارت بالقراءة، كما لخصه ريتشارد هاورد، بأن «ما يقص هو نفسه عملية القص دائمًا» (2).
... ... ...
1-رولان بارت، س/ز (S/Z )، ترجمة ريتشارد ميلر وتقديم ريتشارد هاورد (هيل آند وانغ)، ص5، ترجمه محمد بن الرافه البكري وصدر عن دار الكتاب الجديد المتحدة، 2016
2-ريتشارد هاورد، تعليق على س/ز، مقدمة س/ز لرولان بارت، صxi
- ترجمة/ بثينة الإبراهيم