رمضان جريدي العنزي
الوطن هو المكان والمضمون والمأوى والنسيج والجغرافيا والتاريخ والمجد والمتن والسند، والشجر والنخل والمتنفس والماء والنبض والقلب وشرايين الحياة، والهمس واللمس والشم والذوق والحواس الخمسة كلها، والروح والعقل والذاكرة، إن وطننا عريق ولا يستهان به، ومن يستهين به كأنما يستهين بالتاريخ العربي والإسلامي كله، وذلك ذنب ووهم ورجس جسيم.. هو وطننا هز إلينا جذع النعم، فتساقطت من حولنا نعم سرمدية، ربت على أكتافنا برفق، منحنا السلام، ووسدنا الأمان، وقرأ علينا التعاويذ وتراتيل الكلام الجميل، رسمنا في قلبه خريطة طريق، أشعل لنا الألوان لنا شموعًا، وجعل من الحب خبزًا لنا، نز علينا الضياء، ومنحنا طعم النهار، ننام على صدره مترعين بالسكون، فلا صوت مدفع ولا بندقية ولا قنبلة، ولا قطاع طرق، ولا لصوص، سوى رائحة الزعفران، نستيقظ من نومنا، نسرح لأعمالنا، نترك أطفالنا لنسقي لنا ولهم شجر الأمنيات، ما عندنا تكتلات ولا تحزبات ولا تخرصات ولا ظنون ولا حزبية، سوى وحدة واتحاد ومصاهرة واندماجية، ما عندنا همّ ولا خوف ولا توتر ولا قلق، وأبواب دورنا من خلفنا مفتوحة، العالم رصاص وحكايات موت وجوع ومدن زائلة، ودم الناس يسيل هناك كأنهر ماء، والقتلة يجوبون المدن بجنون يفيض عن التصديق، ليلبسوها الخراب والدمار ولهيب الحريق، وليرقصوا على نوحها، ويلقوا الكلمات على وحشتها وخرابها الوافر، انتفضوا على كل عرف، ومزقوا الستر، وأشاعوا السر، وناموا على زند العفيفة، غصبًا وعبثًا وقوة، حياتهم قلق على قلق، مصابون بحمى الخراب، وحمى الاكتئاب، ويكسرون كل باب، وحتى مواويلهم خراب في خراب، حياتهم جمر ورماد، ومآل ظنون، مارقون من اللا يقين، يحاولون مد أذرعتهم لاحتواء المدى، لكنهم لا يقدرون، أرواحهم جفاء، ولغتهم تهاويم، أفنوا حياتهم بنزف البنادق، والأحلام الغابرة، والمعارك الخاسرة، أضاعوا الطريق وضاعوا، في حلوقهم غصة وطعم حريق، يعشقون سود الكوابيس، ويكرهون البريق، ونحن هنا نراود الضباب عن نفسه، والسنبلة عن قمحها، والحديقة عن وردها، والعسل عن شمعه، والغيمة عن مائها، والشمعة عن ضوئها، والماء عن كوزه، والعنب عن عرائشة، والتفاح عن حقله، والتوت عندنا غير التوت، نأكل ونشرب مما نبتغي، نصحو وننام كما نريد، ولا نبتأس، فوطننا للأشياء أس وظل، ومتن ترنيمة، وللتاريخ إرث، ولليقين يقين، يمد أذرعته لاحتواء الكل، ما عنده جفاء، ولغته بالسلام والوئام نارة، وله نشيد عامر، ندندن به إذا ما اهتوانا الكلام، ووطننا إذا ما استجار الآخرون به، مثل أسلافه يجير المستجير، يصعد مرقاه عن هذا الخراب، ونهتف معه بالغد أنا هنا، ولا يذل وفينا رشيد، وعندنا حكيم، وبيننا من يجيد الثبات، ويتلو اليقين، فعندنا مرايا، وجيش منايا، وقمرنا لا ينكسر، فوطننا الدليل، إلى أرض السلام، ونحن صليل السيوف، ونزف السيوف، إذا ما ابتلتنا المحن، وغير وطننا بقايا حطام، ولون ظلام، وبقعة عتام، ننتفض إذا ما حاولوا مس عفافه، ونكسر كل خطوة إليه ماكرة، وإذا ما دعوا لحربه، نكون لهم خصمًا عنيدًا، فيا ناس وطني، يا أيها الحكماء الراشدون العاقلون الواعون المدركون النبلاء، لكيلا يمتد إلينا الحرق، ولا تمسنا النار، أو تصيبنا حالة من جزع، أو يطاردنا الضياع، وتطمع فينا الثعالب والضباع، اسجدوا لله بأثواب نقية، وقلوب طرية، ثم أفيضوا للرب الدعاء، بأن يحفظه من الأعداء، لكي نزهو به، ويزهو بنا، فلا أرض غيره أرض، ولا نخيل الآخرين يشبه نخيله، أهزموا عنه الغزاة، واطردوا عنه اللصوص، اتركوا الهرج والمرج، وعضوا عليه بالنواجذ، ولا تسهلوا للآخرين الاختراق، لكيلا نعود إلى الوراء، نجتر من جديد الحروب، ونهدم ما بنينا، كما هدم الآخرون البناء، أزيحوا الجليد، واعرفوا سر الطريق، وأن الرياح حولنا عاصفة، والفنار يبدو شحيحًا، وما من رفيق صدوق، صاروا أفاعي تلف حبائلها حولنا، في الحلق منهم لوعة وغصة وحريق، آآآآهـ.. كم عندي في حقهم البغيض نصوص، فيا أيها الناس، لا يلهينا عن حب وطننا إغواء، ولا يشغلنا عنه لقاء، فأنتم الأوفياء المعروفون بعزمكم وحسمكم، وأنتم القاهرون للأعداء، والذين لكم صبر عظيم على البأساء والضراء، ولكم المجد والأنواء والأضواء.