حسن اليمني
الحاجة أم الاختراع، وحين تضيق الخيارات تتسع الأفكار الباحثة عن منافذ في غلاف اليأس، فكلما قل دخل الفرد اتسع تفكيره في البحث عن فرص، وهذه ربما تكون أكثر الوسائل أو الظروف التي تغير في فهم ومفهوم الحياة اليومية لهذا الفرد وتحكم سلوكه.
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} وفي آية اخرى {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وإذا كان من طبيعة الإنسان الألم من ضيق المورد والفرح بسعته إلا ان الإحساس بالسعادة بعد الجهد والإنتاج يبهج النفس ويجعل للبصر قوة فوق المعتاد لرؤية الجمال في الحياة بصورة اكثر قرباً وتناغماً مع عمق وجدان هذا الإنسان، وإن كان الترف والوفرة منعّمة لعيش الإنسان إلا إنها لا تصنع الطمأنينة النفسية الحقيقية له، وحين يتذكر بعضنا حال اقتصادنا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وإن لم نعايشه إلا إننا رأيناه في والدينا ان كان من أحاديثهم وسرد ما سلف من أيامهم أو حتى من خلال ملاحظاتنا لبعض السلوك الذي ربما تعجب بعضنا منه حين لا يتناغم وراهنه لكن الأيام دول وتقلبات الزمان مستمرة وهي طبيعة الحياة في النهاية.
في لحظة ما وبزهو واغترار قد يدخل أحد منا الى السجن ويمضي عقوبة تمتد أشهرا او سنوات، حبس للارادة والحرية مع ما يتبعها من فقدان الخصوصية مضافا له حتمية الانخراط في المجموع المحيط رغم اختلاف ألوانه وأطيافه، لا فراش وثيرا ولا (ريموت كنترول) للتلفاز ولا دورة مياه كما ترغب ولا حتى تأكل ما تشتهي، فقط أنت رقم مع مجموعة أرقام جمعتكم شطحة سلوكية غير سوية، الندم وحده ليس كافيا والتعهد أمام النفس بعدم تكرار الخطأ لن يفيد، أنت ملزم بنفاذ حكم قضائي لا سبيل لتجاوزه، وفي لحظة ما ستجد نفسك تعود مرة أخرى للحياة ولحريتك وإرادتك، ستبحث أولا عن خصوصيتك التي فقدتها بين تلك الجموع وإن بقيت الصور تثقل ذاكرتك بين فترة وأخرى لتلك الوجوه والعيون والألسنة مرتسمة ببعض الحركات الجسدية وطنين بعض الكلمات وزخم ثقيل من القصص والأحاديث التي سمعتها منهم.
وربما وفي لحظة ما تم نقلك إلى المشفى دون وعي منك، وفجأة تفتح عينيك لترى أنك طريح الفراش غير قادر على الحركة، بين فينة وأخرى تشعر بآلام لا تطاق، تئن وتتوجع وتشعر بضعفك وتفاهة قوتك وجبروتك المزعومة، ويوم تخرج من المشفى على قدميك مبتسما وضاحكا ثم تدلف داخل مركبتك وتمضي بصحة وعافية إلى حيث تريد ستشعر بأنك محظوظ وأنت تتذكر الدواء والحقن ووجوه الممرضات والأطباء.
كلنا معرضون للتقلبات بلا تمييز ومهما تباينت مكانتنا أو مناصبنا أو حتى أرصدتنا المالية، وحين نسقط ذلك على الدول وأحوالها فلن نتجاوز الحقيقة، لا شيء يستمر ويبقى دون ان تعترضه تقلبات الزمان وظروفه، والعبرة ليست في منطق الأشياء ولكن في قراءتها والاتعاظ بما رسمته من تغير في الرؤية والتفكير، وفي حين كان ينتظركثير من الناس في وطننا الغالي زيادة في مرتباتهم لمواجهة الاعباء الاستهلاكية المتصاعدة كانت الحاجة في الرؤية للتصحيح في إعادة ضبط السلوك وتصويب الرؤية وإيقاظ الوعي لدى المواطن ليدرك ان الاعتماد على مورد واحد للترف لا يعني غنى ولا وفرة بقدر ماكان فرصة لم يحسن استغلالها بكل أسف وآن الأوان اليوم لبناء اقتصاد حقيقي قادر على توفير الإنسان المنتج.
خرجت المانيا بعد الحرب العالمية الثانية أقوى مما كانت عليه قبل الحرب اقتصاديا، كذلك اليابان، وتمكن مليونان مشتتان في أنحاء العالم من التجمع فوق أرض عربية وبناء كيان عسكري قوي خلال أقل من عقدين من الزمن فقط، جزيرة تايوان خرجت من قيود التسلط وبنت قوة اقتصادية أخرست أحد القوى العالمية وجذبتها لتحذو حذوها، العزيمة الراسخة القوية تحقق الطموحات مهما كبرت وبدت صعوباتها، ونحن العرب لنا تجاربنا أيضا، فقد تحولت مدينة في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى وهج اقتصادي تبعتها بقية الإمارات لتصبح اليوم نجمة ثرية تتلألأ بكل زهو، كذلك تبدو قطر اليوم في الاتجاه ذاته، وهانحن اليوم نتجه نحو المسار الصحيح بإذن الله.
لا أحد يستطيع تسويق الألم والأوجاع ولكن نعزي أنفسنا بغدٍ أفضل، شح الإيراد يخلق الإبداع، وقوة الألم والوجع تعيد الإنسان لحقيقته، الارتداد للعمق يشعل الفكر ويوقظ الوعي ويفتح منافذ الرجاء، أسأل الله العلي القدير ان يجعل من عسرنا يسرا.