الحمد لله المتوحد بالبقاء وكتب على خلقه الفناء جعل لكل شيء ابتداء وانتهاء سبحانه وتعالى القائل في محكم التنزيل {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (185) سورة آل عمران.
وقال تعالى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (26-27) سورة الرحمن.
إيماناً بقضاء الله وقدره تلقيت خبر وفاة المرأة الفاضلة والكريمة موضي بنت راشد عبدالله التّويم صاحبة الخلق الرفيع والقلب الكبير عبر رسالة هاتفية يوم الخميس 29-11-1437هـ الموافق 1-9-2016م السَّاعة الثَّانية ظهراً وأنا في طريقي إلى منزلي، فأخذت أردد قول الله عز وجل: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} مرات عدة، وأن هذا مصير كل إنسان منَّا في هذه الحياة الدنيا- لا بُدَّ من الرحيل مهما طال عمره وسار وجال على هذه الأرض المباركة لا بُدَّ من الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها الله فسيح جناته.
لقد قال الشاعر الحكيم:
كذلك الموت لا يبقى على أحد
مدى الليالي من الأحباب محبوبا
وفي أثناء تبادل أطراف الحديث مع أخي الكريم تركي بن حمد الحرابي -حفظه الله- لفترة من الوقت عن سيرة جدته ومآثرها الكبيرة -وهو يحبس دموعه بصعوبة بالغة- توقف برهة فقال لي: لقد زرعت فينا أنا وإخوتي وأخواتي كل خصال الخير والمحبة والمودة وصلة الرحم، فهي تعتبر كالشمس التي رحلت عنا وبقي ضياؤها بعد غروبها كما قال الشاعر الحكيم:
تولت وأبقت بيننا طيب ذكرها
كباقي ضياء الشمس حيت تغيب
فهي مشاعر لو أدليت كثيراً سيُطيل بي المقام -وقد أبدى استعداده التام لي لتقديم أية معلومة أريدها- وكانت كلماته وعباراته ومشاعره تفيض صدقاً وثقة وإخلاصاً، كان يرتجل سيرتها بعد تحضيرها تحضيراً فائقاً، وكان هادئاً في سردها، يأسرك بهدوء عجيب، واثقاً مما يقول من معلومة بكل تفاصيلها وبكل دقَّة، حريصاً على تحليلها بالشّواهد، وخاصَّة بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية فقد أعطاني انطباعاً كاملاً، ولعل من قبل الاحترام والتقدير والعرفان لهذه المرأة الفاضلة أن أعبّر عما يجول في خاطري تجاه هذه المرأة العصامية، فقد أعطاني مجالاً واسعاً أن أتحدث بكل أريحية، فالحديث عنها يحتاج منَّا إلى صفحات عدَّة لكي نعطيها حقها من الإنصاف والعدل والمساواة؛ جَرَّاء ما قامت به طيلة حياتها الزوجية والعمليَّة من أعمال جسام لمحيطها الأسري، فلا أحد يستطيع من أفراد أسرتها أو أقاربها أو أقرانها أن يتجاهل أعمالها وأفعالها وكرمها المنقطع النظير، فمنزلها عامر بالحب والضيافة الأسبوعية وكل مناسبة سنوية فإنها بفضل الله وكرمه.. تملك مهارة القيادة بحكمتها المتأصلة منذ نعومة أظفارها، فقد صقلتها الحياة على مر السِّنين حتى ظهرت على السّطح جليَّة، ولكنها مشاعر جالت بخاطر الكاتب أوجبها حق الوفاء لهذه الأسرة الكريمة أن أتحدث عنها ولو بجزء يسير عما تتحلَّى به من أعمال وأفعال ومحاسن وخصائص حميدة وصفات عدة؛ فإن أفراد أسرتها وإخوانها وأحفادها وأقاربها وأختها ينتابهم الفخر والاعتزاز بأن يسُترسل الحديث عنها عبر هذه الأسطر القليلة، فقد رسمت تلك الإنسانة لنفسها طريقاً في هذه الحياة وظلت تسير فيه على هدى وبصيرة لا تحيد عن ذلك الطريق أبداً ولا تنحرف إلا بمقدار ما يسمح به دينها وحياؤها وعادات مجتمعها، فإنها في تلك الحالة ترقى إلى المستوى الإسلامي الراقي في الثبات على المبدأ والاستقامة على المنهج القويم الذي رسمه نبي الرحمة مُحمَّد -صلوات الله وسلامه عليه- فالمرء الَّذي يصل إلى هذا المستوى الجميل من وضوح في الرؤية وعمق في الإحساس وشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتقه يربح نفسه أوَّلاً من التّذبذب والضّياع والهلاك ومن الظلم والاعتداء على الآخرين ويربح النَّاس من حوله.
اشتهر صيتها الطيب وسيرتها الحسنة وسمعتها الجليلة بين أوساط مجتمعها المتماسك والمترابط والمحافظ على القيم والمبادئ والأخلاق بين أقاربها الأجلاء وبين أحفادها الكرماء وبين أرحامها النبلاء وبين أقرانها الأعزاء، كل هذه الأمور التي أمدني بها أخي الفاضل (أبو حمد) تداعت إلى ذهني، فإن الآذان تطرب لسماع تلك الكلمات والعبارات، والألسن تستعذب ذكرها في كل مناسبة. فالجميل جداً أن يعيش المرء في هذه الحياة محباً ومحبوباً لدى أفراد أسرته وإخوانه وأقرانه وهذه من نعم الباري -عز وجل- على كل إنسان منَّا أن يتصف بهذه الصّفات الحميدة، فقد بذلت جهوداً كبيرة في غرس هذه الصفات في بناتها الكريمات فكانت نعم الزّوجة لزوجها من تأدية للواجبات والحقوق الزوجية.
وتعتبر أم محمَّد المرأة الصالحة -رحمها الله- من نساء الرّعيل الأوَّل نحسبها كذلك والله حسيبها بما تتصف به من صفات عدَّة ومن خصال عالية يضرب بها المثل عند أقرانها في الحكمة والموعظة والتواضع ولين العريكة والدعابة والصبر والحلم والعفة والمعرفة والدراية بأمور أسرار الحياة، فقد تميزت بالسيرة الحسنة وعلو المكانة بين أقاربها وأرحامها دائماً، لسانها رطب بذكر الله وقلبها نقي من شوائب الحقد والحسد والكراهية والبغضاء كافة، وقلبها معلق بتأدية الصّلوات الخمس في وقتها إلى جانب النّوافل والوتر في منتصف الليل، فهي تكنّ في قلبها المحبة والمودة للجميع -صغاراً وكباراً- وكانت لا تضخم أمور المناقشة للحد الذي يفضي بها إلى الخصام، وتحرص كل الحرص على ربط أواصر عرى المحبة والتعاون والتعارف والترابط والتكاتف والمودَّة لكل من يعرفها وتعرفه، لا تترك قريباً ولا بعيداً ولا محباً ولا عزيزاً ولا غائباً إلا سألت عنه وعن أفراد أسرته فهي تسأل عن الصغير قبل الكبير.. ودائماً ابتسامتها لا تفارق محياها.
فكلماتها الموزونة وعباراتها الجميلة ومفرداتها اللغوية العالية هي ما يميز تعاملها مع من حولها فوسيلة الكذب لا تجد طريقاً إلى لسانها فتجدها لا تتحدث ولا تخوض في أعراض الآخرين سواء بذم أو شر، لا تترك للقلق والهم طريقاً يتسلل منه إلى قلبها، فهي دائماً متفائلة بأسرار هذه الحياة بما فيها من حزن وألم وكدر ومشقَّة وعناء ومحبة إلا أنها دائماً تجد العون والمساعدة من خالق السموات والأرض تشارك النَّاس أفراحهم وأتراحهم وتزور القريب أوَّلاً والبعيد ثانياً تكثر السؤال عن أوضاع الأسرة وعن أحوالهم الماديَّة والصحية بعناية واهتمام وحرص شديد وتدعو لهم بأحسن الأدعية وأفضلها وأعزها عند خالق السموات والأرض دائماً حسنة الحديث, حسنة الألفاظ، حسنة العبارات، حسنة الكلمات الراقية.
فقد بذلت جهوداً جبَّارة في خدمة زوجها عبدالواحد بن محمد المرداس -يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته- خدمة لا مثيل لها طيلة حياته وعند كبره وسوء حالته الصحية كانت تبذل الغالي والنفيس في خدمته وخدمة والدته وسعادتهم جميعاً، وكانت تحب الخير وتسعى لأبوابه المتعددة كافة بالكلمة الطيبة والصّدقة والزكاة والتوجيهات السديدة والنصائح الهادفة والإرشادات النيرة والفضائل الجمة، وكان زوجها -يرحمه الله- متقيداً بحديث عائشة -رضي الله- عنها ما كان عمل النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في بيته؟ فقالت (كان في مهنة أهله حتى يخرج إلى الصَّلاة).
وعندما تعرضت لعارض صحي كانوا الأحفاد والبنات والإخوان بجوارها داخل المشفى خلال تواجدها وكانوا يدعون لها بالشفاء العاجل وكل من يزورها من قريب أو بعيد يدعو لها كذلك. وقد شارك في تشجيع جثمانها حشد كبير من النَّاس من داخل (عَرِقَة) وخارجها حيث إن جامع (ابن رواف) قد اكتظ بالمصلين من رجال ونساء وقد تحرك جمع غفير حلف جثمانها الطاهرة إلى مثواها الأخير وألسنتهم تلهج بالدعاء والرَّحمة والمغفرة والثّبات على روحها بأن يغفر الله لها جميع خطاياها وزلاتها وعثراتها وأن يتسامح عنها وخلال أيام التعزية لا يزال المعزون يأتون من كل حدب وصوب، إنهم يعرفون مآثرها الطيبة وسيرتها الحسنة وأعمالها الخيرة كما قيل في الأثر (المؤمنون شهداء الله في الأرض) فقد آلم رحيلها كل محبيها وأحفادها وبناتها وأخواتها وإخوانها وأفراد أسرتها ولكن سيرتها الحسنة ستبقى خالدة -بإذن الله- في نفوسهم وأذهانهم وعقولهم إلى الأبد.
عبدالعزيز صالح الصالح - الرياض