الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
في ظل التحديات المعاصرة التي تواجهها الأمة تتعالى الأصوات إلى ضرورة وبلورة خطاب ديني جديد يعي مقتضياتها وانعكاساتها ودورها في الواقع الإسلامي. وبناءً على المتغيّرات الجديدة التي تتطلّب تطوير الخطاب الديني من المبالغة في تقديم دروس الوعظ والإرشاد جافّة، قد يحرم النص الدّيني من مبادئه الكبرى في الإصلاح ومقاصده المتضمنة لمبادئ التغيير. ولاشك أنّ تطوير الخطاب الديني وتجديده يبدو لازماً من لوازم الإسلام من مجتمعات وأفراد.
الجزيرةناقشت قضيّة تطوير الخطاب الديني في المجتمع السعودي مع عدد من العاملين في الساحة الدعويّة المتخصّصين في العلوم الشرعيّة.
التجديد في الفهم
بدايةً يؤكّد الدكتور إبراهيم بن محمد قاسم الميمن وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لشؤون المعاهد العلمية على الحاجة الماسة والضرورية إلى تجديد خطابنا الديني، تجديداً يركز على فهمنا الصحيح للدين، وليس على الدين نفسه، لأن الدين أكمل من أن يجدد، وما دام التجديد في الفهم، فلا بأس ولا حرج من استخدام مصطلح التجديد، ولا داعي أن يتوجس ويتخوف منه البعض.
فالتجديد المطلوب لن يخل بالثوابت المحكمة، ولن يمس جوهر العقيدة المتمثل في القرآن، والسنة النبوية الشريفة التي أخُذت عن نبينا وقدوتنا محمد - عليه الصلاة والسلام - الذي لا ينطق عن الهوى، وما عدا ذلك من فتاوى وفقه موضوع على يد أشخاص وأئمة مهما كان درجة مصداقيتهم، وإبحارهم في العلوم الدينية، لابد أن يتم مراجعتها وأن تُخضع اجتهاداتهم للفحص، وآراؤهم للتنقيح، لأنهم ليسوا بملائكة منزهين عن الخطأ والسهو، ولا يجوز التعامل مع ما قدموه لنا كمسلمات بديهية دون استعمال العقل لمعرفة ماهيتها، وإلا لماذا خلق الله لنا العقل؟
ما نواجهه اليوم من خطر الإرهاب، يعود بالدرجة الأولى إلى حالة الجمود التي أصابت الفكر الديني الذي وقف عند حدود القرون الأولى، ولم يواكب تطورات العصر، واحتياجات المسلم المعاصر فقد ورد عن رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام أن الله يبعث على رأس كل 100 عام من يجدد لهذه الأمة دينها، وهذا يعني أن التجديد أمر أقره الدين، وليس بدعه كما تروج له بعض الجماعات المتشددة، فإن كنا نريد خيراً لهذا الدين فعلينا مراجعة ووتدقيق الأفكار فما وافق الكتاب والسنة علينا السعي وراءه، وما خالف ذلك يجب أن يتم التخلص منه.
أفكار مغلوطة
ويشير د. الميمن إلى أنّ الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني ضرورة ملحة، في ظل الهجمات الشرسة التي تشهدها المنطقة، والتي تستوجب التخلص من الأفكار المغلوطة، والتي تنسب إلى الإسلام زوراً وبهتانا كي نحافظ على هويتنا، وإسلامنا الصحيح الذي يمتلك من المرونة ما يجعله مسايراً لكل الأزمان، وقادراً على استيعاب كل الاحتياجات البشرية في كل مكان.
إننا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية دائماً ما نستشرف المستقبل بكل معطياته ومخرجاته وفق ثوابت إسلامية ووطنية لا نحيد عنها ولا نميل، وحريصون كل الحرص في التميز في بناء جيل آمن ومحصن ضد الغلو والتطرف من خلال التركيز على البرامج التي تحصن الطلاب، معتمدين على الله تعالى وفي سواعد أبناء الوطن الذي نؤمل منهم الكثير خدمة لدينهم ووطنهم.
خطاب دعوي جديد
ويقول الأستاذ الدكتور عبدالرحيم بن محمد المغذوي أستاذ الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إن تطوير الخطاب الديني في المجتمع السعودي في ظل التحديات المعاصرة وصناعة خطاب دعوي جديد يستوعب المتغيرات الجديدة له من الأمور المهمة التي تتطلبها المرحلة الحالية والمقبلة في تاريخ المجتمع السعودي لأسباب كثيرة مختلفة منها مايتعلق بإعادة النظر في تأهيل وتدريب الكوادر الوطنية الدعوية وفق أسس علمية سليمة نظيفة ومنها ما يتعلق بدراسة أحوال الناس في المجتمع السعودي ومعرفة مشكلاته العقدية والشرعية والأخلاقية والسلوكية والفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ومنها مايتعلق بتطوير وتحديث وتجديد الوسائل والأساليب والوسائط والتقنيات المستعملة في الدعوة إلى الله وإيصال كلمة الحق والخير والإحسان إلى أفراد المجتمع، ومنها ما يتعلق بدراسة المنهاج الدعوي وتجديد العلم به والفهم له والتأكيد عليه، ومنها أيضا دراسة المحتويات المقدمة للمواطنين والمقيمين والزوار وترتيب الأولويات، ومنها أيضاً دراسة جديدة لمقاصد الشريعة الإسلامية ومآلاتها، وكذلك تجديد العهد بدراسة العقيدة الإسلامية الصحيحة والتوحيد الخالص لله رب العالمين ومعرفة أصول الدين الإسلامي الحنيف والدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات، ومنها كذلك تجديد دراسة محاضن الدعوة الإسلامية واقسامها وكلياتها ومعاهدها بل وحتى مقرراتها وبرامجها الجامعية والعليا وأوضاع هيئات التدريس بالجامعات والمعاهد العليا المتخصصة.
برامج علمية
ويضيف د. المغذّوي: إن من أوجه التجديد في برامج الدعوة الإسلامية الصحيحة تصميم برامج علمية حديثة وطنية تعنى بالتصدي للفكر المنحرف ونواتجه كاالارهاب والإلحاد والاشاعات المغرضة والسلوكيات المشينة وغيرها من ضروب الفساد والمنكرات والمعاصي والآثام.
ومن دواعي التجديد في الديني في المجتمع والدعوة والإرشاد مايحتاجه الوافدون إلى الديار المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة من الحجاج والعمار والزوار بالملايين كل عام، وكذا ما يحتاجه أصحاب ذوي الاحتياجات الخاصة من المعاقين وغيرهم من المرضى في المستشفيات الحكومية والخاصة، كما أن التحديات المعاصرة والمتغيرات في المجتمع والمؤثرات الداخلية والخارجية تفرض على المعنيين بالدعوة إلى الله النظر في تجديد لغة الخطاب والنقاش والحوار الديني مع أفراد المجتمع للوصول إلى مراحل متقدمة في إيصال الدعوة الإسلامية على أكمل وجه وأفضل خطاب.
تخوّف وتوجّس
ويبيّن الدكتور عادل بن محمد العُمري أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة القصيم: يتوجس الكثير من المتعلمين والمنتسبين للعلم الشرعي ويرتابون من مصطلح: «تجديد أو تطوير الخطاب الديني» ولايقف هذا التوجس على هؤلاء المتعلمين وحسب، بل نجد بعض مؤسساتنا وكلياتنا الشرعية تتخوف وتتوجس من هذا المصطلح، بل ربما نجد من يعد مصطلح «تجديد الخطاب الديني» منزلقاً وزندقةً وخطيئةً ومؤامرةً!
ولو تساءلنا: ماسبب هذا التوجس والتوحش ولماذا نرى هذا الارتياب من خطابات التجديد؟
الذي أعتقده أن السبب هو في الخلط بين مفهومي الخطاب الديني وبين الدين، فالدين هو الوحي المنزل الذي تمثله نصوص الشريعة قطعية الثبوت والدلالة، أما الخطاب الديني فهو عبارة عن اجتهادات بشرية لفهم النص الديني وهذه الاجتهادات قابلة للصواب والخطأ، وهناك فرق بين الخطاب الديني وبين الوحي المنزل المعصوم عن الخطأ والهوى والنسيان الذي يمثّله النصّ الشرعي، بمعنى أن الخطاب الديني يعتمد في الغالب على النص الشرعي، لكنه يبقى في دائرة الاجتهاد البشري الذي يرتبط بإمكانيات المجتهد العلمية كخطاب الفقهاء والدعاة والوعاظ.
إذن الخطاب الديني خطاب بشري محض، مبنيٌ على علم «اجتهادي» في نظرياته، وفي تطبيقاته، لكن قد يدخله الكثير من الجهل وسوء الفهم والتصور في فهم النصوص الشرعية بل قد يدخله التعصب للمذهب والطائفة، وأحياناً يدخله التعصب للسائد والقبيلة، وبناءً على أنه كذلك؛ فلا يمكن القول إن الخطاب الديني منزهٌ عن الخطأ، ولا يمكن القول كذلك إنه يخلو من المآخذ والمشكلات، وإنه لا يمكن نقده ومراجعته.
وعند التأمل في تراثنا الفقهي نجد التجديد وتطورات الاجتهاد الفقهي قد ظهرا في وقتٍ مبكرٍ من تاريخ التشريع والفقه الإسلامي، ولو تأملنا فقه الصحابة والتابعين لرأيناه فقهاً متجدداً متطوراً بعيداً عن التقليد الأعمى، فقد أدرك الصحابة والتابعون شمولية التشريع الإسلامي وأدركوا سعة الإسلام وصلاحية نصوصه لكل العصور ففهموها بطريقتهم المناسبة لعصرهم وفق مقاصد الشريعة الكبرى، لذا وجدناهم يختلفون في مسائل الشريعة بل وجدنا صغيرهم يختلف فقهاً مع كبيرهم يقول ابن عباس: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبوبكر وعمر»، تأمل في اختلاف ابن عباس مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ثم بعد ذلك ظهرت المذاهب الفقهية والعقدية وهي جزءٌ من محاولات التجديد والتطوير وذلك لأجل فهم النص الشرعي وفق مستجدات العصور التي عايشوها، فلم يكتفِ هؤلاء الفقهاء بآراء من هم أكثر ورعاً منهم من الصحابة والتابعين، بل كانوا مجددين لتلك المرحلة التي عاشوها مدركين وعارفين سعة الإسلام وصلاحية نصوصه لكل العصور ففهموها بطريقتهم المناسبة لعصرهم وفق مقاصد الشريعة الكبرى.
إجراءات مهمّة
ويشير د. العُمري إلى أنّه للوصول بالخطاب الديني الإسلامي للمستوى الذي يتواكب مع مقتضيات العصر لابد من اتخاذ بعض الإجراءات المهمة - ذكر هذه الإجراءات الدكتور جمال نصار الباحث في مركز الجزيرة للدراسات- ومنها:
- تجديد مناهج الدراسات الإسلامية، بما يكفل تكوين عقلية مستنيرة تميز بين الثوابت والمتغيرات، وبين المتفق عليه والمختلف فيه ،والكليات والجزئيات، والأصول والفروع، وتراعي الأولويات.
- الاهتمام بتدريس مادة الثقافة الإسلامية في مراحل التعليم العام، والتي تُعنى بإبراز جوانب الوسطية الإسلامية القائمة على الخير والرحمة والعدل والمساواة وتطبيقاتها في التشريع الإسلامي.
- عدم استدعاء الخطابات الإسلامية الجاهزة، وكذا الفتوى من تراث العصور الماضية دون النظرة التحليلية للواقع المعاصر، لأن ذلك يضر أكثر مما يفيد لعدم مواكبته لحاجات وقضايا العصر.
- على الدعاة والخطباء ضرورة اعتماد الأدلة والبراهين العقلية من واقع الحياة وتجاربها، بجانب الأدلة النقلية في خطابهم الديني، فإن ذلك أدعى للإقناع والقبول.
- ضرورة تجنب مخاطبة الناس بما يخالف السنن الإلهية في الكون والمجتمع من الخرافات والتُّرَّهات التي تملأ بعض الكتب الإسلامية وخاصة كتب الوعظ والإرشاد.
- ضرورة تجنب الانتصارات المذهبية، والجمود على الفتاوى الموروثة، التي تغيّر زمانها، في الخطاب الديني؛ إذ إن ذلك يؤدي إلى تفتيت وحدة المسلمين.