قدم من المجمعة وقدمت من الطائف والتقينا أول مرة في قاعة درس بوكالة قسم التاريخ في كلية التربية بجامعة الرياض بداية العام الدراسي 90 - 1391هـ / 70 - 1971م. هناك كانت بداية أخوة حميمة وصداقة وثيقة دامت سبعة وأربعين عاماً. أمضينا سنيَّ الدراسة الجامعية الأربع نلتقي كل يوم تقريباً ودرسنا على يد أساتذة فضلاء أذكر منهم أستاذنا الدكتور عبدالله بن صالح العثيمين رحمة الله عليه. زرته مرات في منزلهم وقتها الكائن في شارع عسير وسعدت أكثر من مرة بلقاء والده الشيخ إبراهيم ابن الأمير المعروف عبدالله العسكر / رحمهما الله، كما تعرفت على إخوته الكرام الشيخ بدر والدكتور فهد والأستاذ حمد.
عملت وإياه بعد التخرج في سلك التعليم لمدة عامين هو في متوسطة ابن زيدون في حي الوشام وأنا في متوسطة طويق في شارع الريل، ولم تكن الاتصالات خلالها تنقطع بيننا. عدنا بعدها معيدين في كلية التربية تخصص تاريخ حصلنا سوية على قبول لدراسة الماجستير والدكتوراة هو في التاريخ الإسلامي وأنا في التاريخ الحديث في واحدة من أقوى الجامعات الأمريكية في حقل التاريخ بما في ذلك التاريخ الإسلامي وتاريخ ودراسات الشرق الأوسط وحيث يوجد أساتذة كثر متبحِّرون في حقولهم، كما يوجد مركز لدراسات الشرق الأوسط ألا وهي جامعة كاليفورنيا في مدينة لوس أنجلس UCLA.
وصلنا إلى تلك المدينة الكبيرة وتواصلنا مع الجامعة وبدأنا دراسة اللغة في المعهد التابع لها واكتشفنا أنه لا يوجد طلاب سعوديون في الجامعة سوى ثالثنا الأستاذ مأمون بنجر من جامعة الملك عبدالعزيز عكس ما كان عليه الحال في الجامعة الكبيرة الأخرى في المدينة وهي جامعة جنوب كاليفورنيا. خلق هذا الوضع حساً عائلياً غامراً بيننا وأخوة عميقة.
أكملنا دراسة اللغة وبدأنا الدراسة لمرحلة الماجستير وسجلنا في مواد مشتركة عديدة عند أساتذة كبار منهم: الدكتور مايكل موروني المشرف على رسالة عبدالله للدكتوراة والدكتورة عفاف لطفي السيد مارسو المشرفة على رسالتي للدكتوراة والدكتور سيجر بونابكر الهولندي الأصل ذي الثمانين عاماً وقتها والمختص في الشعر الجاهلي والدكتور سكانفورد شو المختص في التاريخ التركي والدكتور جورج صباغ المختص في دراسة مجتمعات الشرق الأوسط والدكتورة نيكي كيدي المختصة في الدراسات الإيرانية وغيرهم.
توالى بعدها قدوم الطلبة السعوديين للدراسة في الجامعة وتكوَّن في غرب لوس أنجلس مجتمع سعودي صغير اتسم بالتلاحم والتواصل على المستوى الشخصي والعائلي، كما تكوَّن في كافيتيريا شمال الجامعة بالقرب من بنش هول منتدى سعودي يلتقي فيه الطلبة السعوديون بشكل شبه يومي، وأذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر: الدكتور محمد الحامد والدكتور مشاري النعيم والدكتور خالد الدخيل والدكتور خليل الخليل والدكتور إبراهيم الجميح - رحمه الله - والدكتور محمد العزام والدكتور عبدالله المطوع والدكتور عبدالله الخليفة وأخيه المهندس محمد والدكتور عبدالعزيز الشبل وبالطبع لأبي نايف حضور دائم مميز في هذا الملتقى اليومي، كما سعدنا مرات بلقاء معالي الدكتور فهد السماري الأمين العام المكلف لدارة الملك عبدالعزيز حين كان يأتي لزيارة مكتبة الجامعة، وكان حينها يدرس في جامعة كاليفورنيا/ ريفر سايد.
كانن لمجموعتنا السعودية الصغيرة هذه العديد العديد من الذكريات عبر السنين في هذه المدينة الكبيرة الصاخبة، ومن ذكريات أيامنا الأولى أنني وعبدالله اكتشفنا مساء يوم أحد ألَّا نقود معنا والبنك مغلق للإجازة الأسبوعية ولم تكن لدينا بطاقات سحب نقود ولا سعوديين حولنا. غريبان متعبان وجائعان في مدينة غريبة لا نعرف فيها أحداً. أخيراً قررنا أن نذهب إلى أحد أفخم المطاعم في قرية وست وود حيث الجامعة وكان مطعماً فرنسياً دخلنا على المدير وأخبرناه بحالنا وما نريد وأننا سندفع ثمن العشاء في الغد بعد أن يفتح البنك أبوابه، ولدهشتنا رحب بنا المدير وتناولنا وجبة عشاء بحرية فرنسية فاخرة.
بعد مرحلة الماجستير تزوجنا ويشاء الله أن نسكن في شقتين متقابلتين في عمارتين متجاورتين، وفي هذه الفترة ولد نايف وولدت ابنتاي مها ولمياء وتكونت صداقة عميقة بين أم حسام الفريح وأم نايف لازالت قائمة حتى اليوم وأم نايف بالمناسبة سيدة فاضلة نبيلة ابنة أسرة البابطين الكريمة، راجحة العقل وكانت خير معين ورفيق حياة لعبدالله.
بعد حصولنا على درجة الماجستير عملنا سوياً في القسم الذي ابتعثنا للدراسة وهو قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة الملك سعود حتى انتقل هو للعمل في مجلس الشورى.
في كل أحواله وطوال حياته كان عبدالله ودوداً خفيف الظل بساماً كريماً وخدوماً ولازمة جوابه لمن يطلب منه شيئاً هي «أبشر». نظيف القلب والنفس لا يعرف الحقد أو الكيد، نظيف اللسان عفيف الكلمة لم أسمع منه طوال هذه السنين كلمة نابية بحق أحد ولا أعلم له خصومة مع أحد. وسطي في قناعاته وفكره، يؤمن أن في الوسطية ثراء للفكر، كما يؤمن بحق الاختلاف ولا يتحول هذا عنده خلافاً شخصياً.
عبدالله اجتماعي بطبيعته ولا يطيق الوحدة مطلقاً في السفر والحضر، ولعل أحد أبرز سمات شخصيته هي قدرته الفائقة على اكتساب الأصدقاء، ويندر أن يدخل مجلساً دون أن يخرج منه بصديق جديد وطريقته «التلقائية» في ذلك هي صدق الاهتمام وحميمية الحديث. أصدقاؤه كثر من علية القوم وبسطاء الناس، سعوديون وأجانب، شرقيون وغربيون وهو دائم التواصل معهم والسؤال عنهم ودليلك على ذلك هو العدد الكبير من المحبين الذين صلَّوا عليه وشيعوه وأولئك الذين توافدوا ويتوافدون على منزله معزين فيه رغم أننا في فصل الصيف والإجازات والسفر.
كما التقيته قبل سبعة وأربعين عاماً، ودعته شخصياً قبل صلاة ظهر يوم السبت 25 - 10 - 1437هـ الموافق 30 - 7 - 2016م وذلك في مغسلة جامع الملك خالد في أم الحمام بعد تغسيله وتكفينه.
الموت حق ولكن الفقد مؤلم، والألم هو في إدراكك الواعي أنك لن تراه مرة أخرى في هذه الحياة. تغمد الله الأخ والصديق والزميل ورفيق العمر عبدالله بن إبراهيم العسكر بواسع رحمته وغفرانه وبارك في نايف وأحسن له ولوالدته وإخوان الفقيد وأخواته العزاء وأطال في أعمارهم. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
محمد بن عبدالله الفريح - قسم التاريخ - كلية الآداب جامعة الملك سعود