الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
مع تكاثر الفتن وتزايدها واجب علينا توحيد الصف وتجنّب الفرقة، وإثارة الشحناء والبغضاء والمقاطعة، ومع تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي وكثرتها ازدادت حدّة التعامل مع العلماء والدعاة والمصلحين وذلك بتصيّد أخطائهم وتتبع هفواتهم وعثراتهم وهي من الصفات الذميمة والخصال القبيحة التي لا يلجأ لها إلا ضعاف النفوس من الناس.
«الجزيرة» طرحت تلك القضية على عدد من أصحاب الفضيلة ليتحدثوا عن هذه السلوكيات المشينة.
العلماء ورثة الأنبياء
بدايةً يقول الدكتور عبدالله بن عبيد النفيعي أستاذ القانون المشارك بجامعة الطائف: لقد أعطت الشريعة الإسلامية للعلماء الربانيين مكانتهم ومنزلتهم اللائقة بهم، فهم ورثة الأنبياء ونورٌ تهتدي به البشرية في دياجير الظلمات، طاعتهم مفروضة، وسؤالهم عند عدم العلم واجب؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ولقد أشار الله - عز وجل - لفضلهم في كتابه بآيات عديدة ؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِه الْعُلَمَاءُ}، وقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وغيرها من الآيات التي بينت فضل العلم وشرف العلماء ومن السنة النبوية: ماروي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (... وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثُوا العلم؛ فمن أخذه، أخذ بحظ وافر).
وغيرها من الأحاديث النبوية الشريفة التي لا يمكن بسطها في هذا المقام. وبعد بيان هذا الفضل والشرف فإنه لا يمكن لعاقل أن يهدر مكانتهم أو تتبع زلاتهم، أو انتقاصهم، وإن ما نشاهده اليوم من كثرة استخدام قنوات التواصل الاجتماعي بين فئات من الناس في الإساءة لبعض العلماء أو تتبع أخطاءهم وتصيد هفواتهم وغيرها من الأمور التي تهدم ولا تبني وتشتت ولا تجمع، وتحدث شرخاً في صف الأمة.
وإن من أولويات الأمور التي لا بد أن يعلمها هؤلاء أن العلماء والدعاة والمصلحين ومن في حكمهم هم بشر غير معصومين فالخطأ وارد، والنسيان محتمل وهي طبيعة البشر.
ولا يحق لكائن من كان أن يقدح في العلماء الربانيين أو يخطئهم بغير علم، أو بصيرة؛ ولا يتسنى ذلك إلا للعلماء أمثالهم. كما أن من لديه علم أن يلتمس العذر لهم، فإن شيخ الاسلام ابن تيمية على عظم قدره ومكانته العلمية ألف كتاباً وأسماه برفع الملام عن الأئمة الأعلام.
وليعلم المرء أن ما يفتي به العالم المجتهد من رأي هو مبني على أدلة وهو ما أدّى إليه اجتهاده فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر اجتهاده. فالواجب على المسلم أن يمسك لسانه ولا يخوض في هذه الأمور إلا عن بصير وعلم، وأن يتق الله فيما يقول ويكتب فكل نفس بما كسبت رهينة.
المكانة الرفيعة
ويؤكّد الشيخ عمر بن عبدالله السعدون كاتب العدل والباحث الشرعي أنّ للعلماء وطلبة العلم الشرعي مكانة رفيعة في دين الله لأنهم ورثة الأنبياء كما جاء في الحديث فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً بل ورثوا العلم الشرعي ونبينا عليه الصلاة والسلام ورث لنا الكتاب والسنة فكل من طلب علم الكتاب والسنة واعتنى به فهو وريث للرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد رفع الله قدر العلماء وطلبة العلم فقال - سبحانه -: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، وأبى - سبحانه - التسويةَ بينهم وبين الجهلة بشريعته؛ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} وأوجب طاعتهم؛ فقال - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} وأولو الأمر - كما قال العلماء -: هم العلماء، وقال بعض المفسرين: أولو الأمر الأمراء والعلماء.
وجاء في الحديث بيان منزلتهم وفضلهم فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه -قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سَهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لَتضعُ أجنحتَها لطالب العلم؛ رضًا بما يصنع، وإن العالم لَيستغفرُ له مَن في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتانُ في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضلِ القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه، أخذ بحظٍّ وافر)؛ رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني في «صحيح الترغيب».
وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: «العلماء هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء؛ بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجةُ الناس إليهم أعظمُ من حاجتهم إلى الطعام والشراب».
توقير العلم والعلماء من إجلال الله - تعالى - وتعظيمِ شريعته، وامتثالِ أمره؛ عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامَ ذي السلطان المقسط))؛ رواه أبو داود، وحسنه الشيخ الألباني في «صحيح الجامع».
الموبقات الكبيرة
ويبيّن السعدون أنّ من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يدينون الله - سبحانه - ويتقرَّبون إليه باحترام العلماء الهداة، بلا غلوٍّ ولا جفاء؛ قال أبو جعفر الطحاوي في عقيدته المشهورة: «وعلماء السلف من السابقين، ومَن بعدهم من التابعين، أهلُ الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكَرون إلا بالجميل، ومن ذَكَرهم بسُوءٍ، فهو على غير السبيل». ويبرز في كل زمان ومكان من يتقحم موبقا من الموبقات الكبيرة ومن شرور اللسان باطلاقه على القدح في العلماء وطلبة العلم الشرعي، لا عداوة مع أشخاصهم، بل في الغالب أنه لا يعرفهم معرفة شخصية ولكن قدحه لهم بسبب أنهم علماء للشريعة وحملة القرآن والسنة وحماة الدين من زيغ الزائغين وانتحال المبطلين فهم السد المنيع لهذا الدين، فلذلك اجلب شياطين الانس والجن بخيلهم ورجلهم عليهم، ومن ذلك ما يحدث في البرامج وبعض الأقلام الصحفية ومواقع التواصل الاجتماعي من الأكاذيب عليهم والتنقص منهم والتشكيك فيهم، والافتراء عليهم، وهذا منكر كبير لآحاد الناس فمابالنا بالعلماء والدعاة إلى الله، الذين يشرفون وترتفع منزلتهم بشرف العلم الذي يحملونه، وهذا لا يعني عصمتهم أو عدم مناقشتهم المناقشة العلمية التي يحفها الأدب والتقدير والاحترام، وأما بغض العلماء والتنقص منهم فهو من أمراض القلوب الخطيرة والعياذ بالله.
ابن المبارك - رحمه الله تعالى -: مَن استخفَّ بالعلماء ذهبتْ آخرتُه، ومَن استخف بالأمراء ذهبتْ دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبتْ مروءتُه، وقال الحافظ ابن عساكر - رحمه الله تعالى -: واعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتَّقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء - رحمة الله عليهم - مسمومة، وعادة الله في هتْك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه برآء أمرٌ عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتَعٌ وخيم، والاختلاف على مَن اختاره الله منهم لنعش العلم خُلُقٌ ذميم، وقال أيضًا: ومَن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه اللَّه - تعالى - قبل موته بموت القلب؛ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
القدح بالحامل يفضي إلى القدح بما يحمله من الشرع والدين؛ ولهذا أطبق العلماء على أن من أسباب الكفر والإلحادِ القدحَ في العلماء، وفي غزوة تبوك استهزأ رجلٌ من المنافقين بقرَّاء الصحابة - رضي الله عنهم - قائلاً: ما رأيتُ مثل قرَّائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل اللَّه - عز وجل - قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} التوبة.
تصيّد الأخطاء
أما الدكتور سعد بن مطر العتيبي أستاذ السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء بالرياض فيشير إلى أنه قد ابتلينا في عصرنا الحاضر (عصر برامج التواصل الاجتماعي) بمن نصّب نفسه قاضياً وليته يقضي بالعدل، إنما يتصيّد هذه الهفوات وتلك الزلات ويظهرها للمتلقي من عامة الناس على أنها مصائب ولا يمكن السكوت عنها!! وقد اقترفها ويجب التحذير منه وعدم السماع لهذا المصلح وليته اكتفى بهذا، بل يرى أنه من الديانة لله أن كل من سمع مقولته هذه أو (هجومه إن صح التعبير) يجب أن ينقلها لغيره، ينقلها لمن غُرّر بهذا المصلح، وبزعمه أن بفعله هذا يُعد ناصحاً لله ومؤدياً للأمانة، وهم يفرحون بخطأ هذا المصلح أكثر من صوابه وقول الحق على لسانه!! فأصبح تصيّد أخطاء الدعاة والمصلحين هاجساً يؤرّقهم، وأمنية يسعون إليها، وهدفاً يرجون تحقيقه، أهذا منهج النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ أهذا دأب السلف الصالح؟! أهذه صفات الداعية الناجح؟!
ويؤكد د. العتيبي أن هؤلاء همهم الأكبر وإنجازهم الأعظم هو إسقاط ذلك المصلح وتتبّع هفواته وكأنه خُلِق معصوماً لا يُخطئ!! وإياه وإياه أن يخطئ!! وإذا أخطأ وإن كان ناسياً أو جاهلاً فقد خرج بخطئه هذا من هدي سيد المرسلين وإمام المتقين وضل وابتدع ولا توبة له، مشيراً إلى أنّ تصيّد أخطاء الدعاة والمصلحين أضعف الدين وتسبب بشيوع المنكرات وتفشيها، وكثرة الاختلافات ونشوب النزاعات، وهذا من أكبر الأسباب التي أدّت إلى ضعف الدعوة إلى الله إن لم يكن أكبرها، كما أن تصيّد الأخطاء وتضخيمها ونشرها بين العامة من الصفات اللئيمة، فهتك الأستار والتشفي ليس من مكارم الأخلاق، وليس من الشهامة، فالكرام ينصحون سراً بعيداً عن التحامل والتجنّي.