الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يتساهل البعض من الناس في حقوق العباد، فبعد الاقتراض المالي يبدأ التسويف والمماطلة في ردّ الدّين الذي يعد من أعظم الخطر، وهو ما يعتقده البعض أن الاقتراض من الآخرين وسيلة مشروعة للكسب فتراه يحتال ويتظاهر بالحاجة والأزمة ليحصل على القرض ثم يأكله ولا يبالي بصاحبه مطلقاً.
وقد ورد في السنة الصحيحة زجرٌ أكيد ووعيد مخيف لمن تساهل في حقوق العباد كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من كانت عنده لأخيه مظلمة فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري في صحيحه.
وهذه الفئة من الناس الغير مبالية بحقوق العباد، تجدها تقدّم النوافل على الواجبات، فهم لا يتركون العمرة والحج سنوياً، ويصومون كل إثنين وخميس، وغير ذلك من السنن، ولأهمية هذا الموضوع المتزايد في المجتمع.. طرحته «الجزيرة» على عدد من أصحاب الفضيلة والمختصين.. وكانت هذه الحصيلة.
الإذن من صاحب الحق
بدايةً ينبّه د. إبراهيم بن سليمان الهويمل وكيل الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سابقاً إلى استحضار القواعد الكثيرة المتعلقة بهذا الجانب وتقديم الواجب واجب على غيره وحقوق العباد مبنية على التشاح بخلاف حقوق الخالق عز وجل فهي مبنية على التسامح ومن هنا فالواجب على كل ذي عقل ودين التأمل في هذه المسألة قبل الإقدام على العمل، وذلك بأداء الحقوق إلى أصحابها والحرص على ذلك لتحرير رقبة المؤمن من المطالبات بالحقوق ومغفرة الخالق عز وجل واسعة وتنال بإذن الله بطرق كثيرة لا تؤثر على حقوق الآخرين وذلك بالمحافظة على الواجبات والبعد عن المحرمات والذكر بكل أنواعه وغيرها من الأعمال، ومن هنا يظهر لنا التقصير من البعض عندما يتساهل في أداء حقوق الخلق الواجبة عليه ويقدم عليها أعمال تطوعية إلا إذا أخذ إذناً من صاحب الحق أو لم يكن الحق حالاً وقت العمرة فلا حرج إذاً والله الهادي إلى سواء السبيل.
مبدأ اللامبالاة
ويقول د. عبدالعزيز بن حمود المشيقح عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم أنّ الإنسان يحتار ويتعجّب حينما يرى كثير ممن يملئون جنبات المسجد الحرام في شهر العبادة والصيام وقد أعدوا العدة ودفعوا الأموال الطائلة من أجل ألا تفوتهم عمرة رمضان، وللأسف كثير منهم عليه التزامات مالية وربما يماطل في حقوق العباد، فالحج وهو فريضة والركن الخامس من أركان الإسلام ومع ذلك قال الشارع (لمن استطاع إليه سبيلاً).
على المسلم أن يكون همه سداد دينه قبل تعبده تطوعاً بل إن ذلك يتعاظم حينما يماطل الإنسان في تأدية ما عليه من حقوق للعباد ويذهب لمكة ويستأجر بأسعار مرتفعة بل ويجهز العدة والعتاد وكل ذلك من أجل أن يقال اعتمر في رمضان!!.
إن الإنسان العاقل السوي هو الذي يحمل هم الأمانة ويعرف الحق الذي عليه فلا يعقد نية السفر قبل أداء ما عليه من حقوق أو التحلل من أصحابها فإن أذنوا له فالحمدلله، لكن أن يشد الرحال لبلد الله الحرام وقد أخذ مال هذا وماطل لهذا بل بعضهم أذيته طالت خصومه فيسافر والناس تدعو عليه.
ويضيف د. المشيقح قائلاً: أليس من الأولى ترويض النفس على أداء الحقوق، فكثير من الناس يعتقد أن الاستغفار والتعبد في بيت الله الحرام سيكفر عن حقوق العباد وإلا لسرق الإنسان واعتدى على حقوق الناس وذهب يستغفر، فالعاقل خصيم نفسه فمن لديه التزامات فيطلب من أولاده وأسرته إعانته على أداء حقوق العباد بدل من تراكم قضاياه من مبدأ اللامبالاة، لأننا يجب أن نربي أنفسنا على الفضيلة وأن ننشئ أولادنا على هذه القيم فيحترموا حقوق الآخر قبل التزود بالطاعات. فوالله لو تعلقت بأستار الكعبة وعندك إنسان قد ظلمته أو هضمت حقه ولم ترده له فعملك مرهون بالتحلل والتسامح منه. وهنا الواجب على المجتمع وخاصة الخطباء تنبيه الناس على أن يكون همهم أداء حقوق العباد قبل التطوع في عبادة رب العباد.
الواجب قبل النفل
ويذكر د. فهد بن سعد الجهني أستاذ الدراسات العليا بجامعة الطائف والمدرس بالمسجد الحرام أنّ الشريعة جاءت لترسم المكلفين ميزاناً ومنهجاً شرعياً منطقياً ينظم أمورهم ويُرتب أولوياتهم.. ولذلك استنبط علماء الشريعة لاسيما أهل أصول فقه مراتب الأحكام الشرعية ما بين واجب وندب ... إلخ.
ومن قواعد أهل العلم وجوب تقديم الواجب على المندوب والنفل ووجوب معرفة ماهو واجب وما هو مندوب حتى لا تختلط الأحكام ويقع المسلم في الغلط أو يُفوّت على نفسه الأهم والأكثر نفعاً!. والأصل في ذلك قول الله في الحديث القدسي (ما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ...).
ومن ذلك أن حقوق الآدميين من ديون أو نفقةٍ واجبة على زوجة وأهل ووالدين واجبة وقيام المسلم بعمرة أو حج نفل هذا من المندوبات فعند تعارض الأمرين فلا يجوز تقديم النفل على الواجب. بل يجب عليه أن يُبرئ ذمته من هذه الحقوق قبل فعل هذه المندوبات، وكذلك الوقت الذي يبذله في بر والديه والعناية بأهله وأولاده هذا وقتٌ واجب وهو أولى من أوقات يقضيها في نفل لاسيما إذا كان هناك من يحتاج وجوده.
ويؤكّد الدكتور فهد الجهني أن تقديم المساعدة والإحسان للمحتاجين من أقارب وغيرهم هو أعظم أجراً من عمرة نفل أو نحوها لأن العمل المتعدي نفعه أعظم أجراً من العمل القاصر نفعه على صاحبه في الغالب.
التوبة الصحيحة
واستشهد الدكتور محمد بن إبراهيم الرومي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود في الحديث الصحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يرد الله به خيراً يفقهه بالدين»، وإن العلماء خلفاً وسلفاً أجمعوا على أن المسلم لا يفعل سنة ويترك واجب، فمثلاً دخلت المسجد والإمام يصلّي فرضاً فيجب أن لا تصلي السنة وتلتحق بالفريضة بل وإن كنت تصلّي السنة وأقيمت الصلاة وتيقّنت أنك لن تدرك الركعة الأولى فيجب عليك قطع السنة وإتمام الفرض، ومثال آخر: تقبيل الحجر الأسود «سنة» ولكن إذا تيقّنت أنك ستؤذي غيرك من المسلمين فصار الأمر من السنن واجب وجب عليك أن لا تقبّل الحجر وأعطاك الله على قدر نيّتك، وكل سنة تؤدي ترك واجب فإنها تُترك.
كذلك العمرة أو الحج إذا أردتهما وعليك دَيْن حرمت عليك العمرة أو الحج؛ وفي ذلك تفصيل إذا كان حجك أو عمرتك ستكلفك 50 ألف وعليك دَيْن 50 ألف نقول: لا، فالدّين أولى، أما إذا كان الحج أو العمرة لن تكلفك إلا آلاف قليلة كقيمة الهاتف المحمول جاز لك الحج أو العمرة. وعلى الناس التوبة والتخلص من حقوق العباد، ولا تتحقق التوبة مما يخص العباد إلا بأدائها والاستحلال فيها.
وينبغي عدم الاستهانة بها سواءً أكانت مادية أو فعلية فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:- « تَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ « قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْضَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» أخرجه مسلم، وهذه الحقوق لا تسقط بطاعة واستغفار.