الجزيرة - أحمد المغلوث:
على هامش مشاركة في معرض دولي، أعدت لنا اللجنة المنظمة للمعرض زيارة لمراسم بعض الفنانين، التي تقع في قرى خارج باريس. وعلمت بعد الجولة أن بعض من زرناهم في مراسمهم كانوا ينشدون الهدوء والبُعد عن صخب باريس، إضافة إلى تعذر وجود سكن مناسب وواسع بأسعار معقولة؛ لذلك كان الخيار الأفضل هو الانتقال إلى القرى والبلدات الصغيرة وحتى المزارع، وخصوصًا أنها تتميز بتوافر الخدمات كافة التي قد يحتاج إليها كل منهم؛ وبالتالي لا حاجة إلى الإقامة في العاصمة، لكنهم يترددون عليها بين فترة وأخرى خلال وجود معارض أو فعاليات من المهم حضورها. وخطر على بالي ذلك وأنا أكتب هذه الإطلالة لهذا اليوم، لماذا الهجرة للمدن الرئيسية؟ ولماذا لا نشجع الإقامة في القرى والبلدات الصغيرة بعيدًا عن زحام المدن وصخبها وإزعاجها؟ ولماذا ركزنا العديد من الخدمات في هذه المدن التي كانت وراء (هجرة الملايين) من المواطنين إليها؟.. ولا شك أن الهجرة لهذه المدن كان لها إيجابياتها؛ إذ ساهمت في تطويرها وتنميتها عبر وجود هذه الأعداد الكبيرة من المواطنين والمقيمين فيها، وجميعهم يعملون في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة؛ ما ساعد على نمو متنامٍ في المباني والأعمال والأنشطة المساندة لوجودهم فيها.
والهجرة للمدن قديمة قدم التاريخ الصناعي؛ فعندما انطلقت «الثورة الصناعية» كانت بحاجة لمئات من الأيدي العاملة، التي مع مرور الأيام تضاعفت عشرات المرات. هذا ما حدث في العواصم الأوروبية والدول العربية، وأيضًا في وطننا الحبيب؛ إذ شهدت مدننا بعد اكتشاف النفط هجرة كبيرة للمدن النفطية أولاً، التي أُنشئت حول حقول النفط، كالدمام والخبر والجبيل.. فنجد أن الدمام مثلاً باتت عاصمة للمنطقة الشرقية، وشكّل سكانها فسيفساء كبيرة، يوجد فيها مختلف أبناء المملكة الذين قدموا إليها من الشمال والجنوب والغرب.. ومع تنامي النهضة في المملكة حظيت مدن أخرى كالرياض وجدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة بهجرات متواصلة من أبناء الوطن للعمل في هذه المدن؛ كونها تحولت إلى مدن اقتصادية.
ولا يختلف اثنان على أن من أساب الهجرة لهذه المدن الرغبة في مواصلة الدراسة، والرغبة أيضًا في الوظيفة أو العمل في المجالات المناسبة، حسب الإمكانات والقدرات والمؤهلات. وأيضًا بهدف تحسين أوضاعهم المعيشية والحياتية. ولا يمكن أن ننسى أن الحياة المعيشية في المدن الكبرى أفضل من المدن الصغيرة أو القرى أو الهجر؛ لما توفره المدن الكبرى من خدمات وخصائص، لا تتوافر في مدنهم أو قراهم.. أهمها بالطبع الوظيفة أو العمل، وتوافر البنية التحتية الممتازة التي جعلت من الحياة أكثر سهولة ومتعة في هذه المدن. ومن هنا تضاعف عدد سكان المدن الرئيسية (الرياض وجدة والدمام) بصورة مدهشة؛ ما ضاعف من معاناة سكانها من ظاهرة الزحام والاختناقات المرورية.. لكن سوف تختفي هذه المعاناة بعد استكمال مشروع مترو الرياض.. ومع هذا سوف تستمر الهجرة للمدن إذا لم نهتم بتطوير المدن الأخرى وبلداتها وقراها؛ حتى نخفف العبء على المدن الرئيسية، ونساهم في الهجرة العكسية، التي باتت مطلوبة بصورة ملحة كما فعلت مدن عالمية كباريس ونيويورك ولندن وطوكيو، وغيرها من المدن الكبرى في العالم.